الأربعاء 2016/02/10

آخر تحديث: 14:18 (بيروت)

ساكسفون أميركي في لبنان: توماس هورنيغ عازفاً مع الجميع

الأربعاء 2016/02/10
ساكسفون أميركي في لبنان: توماس هورنيغ عازفاً مع الجميع
توماس هورنيغ: لم نكن نعرف أبي وأنا، نوع الآلة التي أريد العزف عليها.
increase حجم الخط decrease
منذ استقراره في لبنان، يعتبر عازف الساكسوفون الأميركي توماس هورنيغ أحد الأسماء البارزة في مشهد الجاز اللبناني. درّس في معهد الكونسرفتوار الوطني منذ قدومه العام 1994 وقد أسس أوركسترا المعهد لموسيقى الجاز The Big Band العام 2009. قدمت الأوركسترا حفلة كبيرة قبل أيام في الجامعة اليسوعية مع شربل روحانا، وهي تلعب دورا منذ تأسيسها في تنشيط مشهد الجاز البليد والمحدود في المدينة، من خلال إدخال لاعبين شباب إلى هذا المشهد. يضم هذا المشهد أسماء قليلة معروفة لم تتغير منذ سنوات طويلة، من بينها رافي ماندليان وآرتور ساتيان وإيلي الشمالي وفؤاد عفرة وغيرهم.

إضافة الى ذلك، يعتبر هورنيغ مساهما دائما مع فرق بلوز وفانك وريغيه وقد لقب أحيانا بالموسيقي الذي عزف مع الجميع. عرف مؤخرا من خلال نشاطه المدني في المطالبة بإعطاء الأم اللبنانية الجنسية لأبنائها وتحسين الوضع القانوني للأجانب في لبنان.

نحاول من خلال هذه الشهادة الإبتعاد قدر الإمكان عن الوجه المعروف لهورنيغ في الأوساط المدنية، في محاول لسرد مقاطع من سيرة فنان صعد الى الأضواء في بيروت، بعدما كان شخصية "غير مرئية" في الخارج بحسب تعبيره:


1
لم نكن نعرف أبي وأنا، نوع الآلة التي أريد العزف عليها. نظر اليّ صاحب المتجر  لثوانٍ ثم قال لأبي "عليك أن تشتري ساكسفون لهذا الشاب الصغير". فُرض عليّ الأمر فرضا وقد كنت  في عمر التاسعة. دخلت مدرسة لتعليم الموسيقى حتى الرابعة عشر. أتى مدير جديد للمدرسة اسمه آرول فينسينت، قام بتغييرات بنيوية طالت المنهاج التعليمي الذي تحول الى طابع أكثر عمليّ و"استعراضي". بدأنا بالإشتراك مع فرق جاز متنوعة، نلبس فيها ثياب مخصصة ونمشي كأننا فرقة عسكرية في فرق سيارة (Marching Bands) وفي Pipe Bands ، وفرق استعراضية أخرى تعزف قبل مباريات الهوكي وكرة القدم الأميركية. هكذا كانت البداية. لكن ما أراه اليوم أنه بداية حقيقية كانت تلك اللحظة التي كسرت فيها آلة الساكسفون خاصتي عن طريق الخطأ. اشترى أبي يومها ساكسفون من صنع فرنسي(سيلمير)، لم أكن أجيد العزف عليه. ما دفع أبي ربما لهذا القرار أن ذلك الصنف من الآلات كان مفضلا لعازفين عالميين مثل جون كولتراين وشارلي باركر وصوني رولر وغيرهم. أعتقد أن تلك اللحظة شكلت تحولي الحقيقي الى موسيقي حقيقي.

2
حصلت بفضل تلك الآلة على فرصة اللعب مع "جاز تريو" في ولاية مونتانا لسنتين. في السنة الأولى كنت ألبس ثياب "بيل بوي" جلدية أما السنة الثانية فانتقلنا للأداء في أحد الملاهي الليلية التي تعرفت فيها على فتاة فرنسية، أغرمت بها وسافرت من أجلها الى باريس. هناك وبسبب نقص المعارف والنقود صرت أعزف في محطات القطار. تعرفت يومها على مدرس جاز أميركي يعيش أخذني معه الى حفلاته خارج المدينة وفي بعض مناطق الضواحي. كان الأمر غريبا ومخيفا في البداية. مراهق أتى من مينيسوتا يخرج للمرة الأولى الى العالم بدون أن يجيد لغة أخرى غير الإنكليزية.

3
تعقدت الأمور عليّ كثيرا في تلك الفترة ودخلت في مشاكل مع عائلتي وانفصل والداي. لا أعرف كيف وجدت نفسي بعد فترة متطوعا في الجيش الأميركي. فرزت الى القاعدة الأميركية في برلين وكنت واحدا من آخر الجنود الأميركيين المغادرين محطة شارلي الشهيرة التي فصلت لسنوات برلين الغربية والشرقية. كنت في الوقت عينه عازفا مع فرقة الجيش الموسيقية، وأديت مقطوعات في أمكنة رسمية وفي بعض السفارات. بقيت في الجيش منذ عام 1988 حتى 1991 التي سرحت خلالها بسبب فشل في الفحص الطبي. بعد خروجي من الجيش عاودت الإتصال بأستاذي في فرنسا لأتفاجأ أنه وبعد كل تلك السنوات قد أصبح مديرا لمدرسة متخصصة في التعليم الموسيقى. لم تكن أي مدرسة بل المعهد الذي علم فيه موسيقيون عالميون أمثال ايغور سترافنسكيي Igor Stravinsky وناديا بيليونجيه  Nadia Boulangerوغيرهم.

4
بعد تخرجي من المعهد تعرفت على زوجتي اللبنانية. رفضت زوجتي الإنتقال معي الى الولايات المتحدة مفضلة العودة الى بيروت والمشاركة في ولادة المدينة الجديد مع انتهاء الحرب وبداية مرحلة إعادة الإعمار. من المضحك دائما كيف تنتهي الأمور. صرت في لبنان. هذا البلد الغريب الذي لا تستطيع تصديقه، فأنا عازف الساكسفون الأميركي المعروف في لبنان او ربما في الشرق الأوسط، أما في نيويورك سأكون غير مرئي على الأرجح.

5
بعد انتقالنا بدأت العزف مع أحد الاصدقاء في مقهى "بلو نوت" وفي أمكنة أخرى. دعيت بعد فترة الى فيلا في منطقة بعبدا. أعتقد أن تلك اللحظة كانت مصيرية في مسيرتي في بيروت. كان ينظم في الفيلا طقس أسبوعي مخصص لموسيقى البلوز، كان يقوده كمال بدارو وضم أسماء بارزة في مشهد المدينة الإقتصادي منهم فؤاد بطرس، مدير بنك الإعتماد اللبناني، وحتى أسماء من الخارج بينهم أمير كويتي من آل الصباح يعزف على آلة الباص. بقي هذا الطقس مستمرا نحو عشرين عاما منها 12 عاما في كل يوم إثنين بدون انقطاع. تعرفت هنالك على عازفي البلوز والجاز في المدينة الذين استمريت لاحقا في العزف معهم في مقهى "كوادرانغل" في الحازمية. كان هذا المكان بمثابة نقطة ارتكاز بالنسبة لي ساعدني على الإنطلاق في المدينة.

6
أعتقد أن عازف الجاز يمكنه التأقلم في أي مكان يذهب إليه. الجميع يعرف Jazz Standards حول العالم. عندما أذهب الى أي بلد دائما ما أجد مجموعة أتكلم معها لغتي أو "لغة الجاز" التي تجعلنا كأننا أعضاء في جماعة. ثم ان الجاز بما يتطلبه من ثقافة واضطلاع واسعين، يمكن عازفه من لعب أي نمط آخر ما سمح لي بالتالي بعد استقراري في بيروت العمل مع فرق متنوعة الأنماط وأساير الجميع. يتسم عازف الجاز دائما بمرونة تسهل عليه هذه المسائل. وعلى الرغم من تأديتي لآلة الساكسفون ذات الصوت "النووي" إلا أني استطعت التأقلم مع أكثر الآلات انخفاضا مثل العود. بالطبع أنت تضيّق وتكسر دينامية ما في عمل آلتك لكنك مضطر لتغيير صوتك كي تتحاور. على كل حال ان هذا ما يحاول الجميع الوصول اليه بطريقة ما، وما عليك سوى تقديم رؤيتك التي ستختلف كل مرة.


7
حفلة أوركسترا The big band الأخيرة مع شربل روحانا، كانت مثالا عن الأمكنة التي تستطيع أخذ الجاز إليها. انه أمر عظيم أن تسمع موسيقاك تأتي من مجموعة ضخمة من الآلات. تقف في الوسط وتقود جيشا تأخذه أينما تشاء. تشعر أنك اشبه برجل خارق. انها تجربة فريدة يتحول الجميع فيها الى جسم واحد يتصل الجميع فيه بطريقة في غاية الحميمية وعلى مستويات عدة. لا تتفاجأ عندما يصف لك أحد الموسيقيين أن التجربة يمكن أن تكون أجمل من ممارسة الجنس. انها بالفعل كذلك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها