الأربعاء 2016/02/10

آخر تحديث: 14:03 (بيروت)

جولة رمزية في بيروت: رايات حروبها تُفكِّك جيوشَها

الأربعاء 2016/02/10
increase حجم الخط decrease
سكانّ بيروت في حالة تأهبٍّ مستمرة، يعبرون أحياءها بشيء من حذر المقاتلين، يتقدّمون عند لمسهم لمعالم وعلاماتٍ تطمئنهم وينكفئون أمام شعائر ورموز لا يشعرون بالولاء لها. هم كأحجار الشطرنج في لعبة كرٍّ وفرٍّ دائمة، يقفزون من مربّعٍ إلى آخر ضمن رقعة المدينة بخطىً متأنّية واستراتيجية.

في عمله الفنّي الجديد، والذي تستضيفه صالة "صفير زيملر"، على تخوم المدينة الفقيرة والصناعية، يدعونا الفنّان اللبناني مروان رشماوي إلى اختبار عملية عبور بين أحياء بيروت المتعدّدة من منظار خاص يرتكز على مزيج بين طقوس الحرب وإشارات الألعاب اللّوحية. "من بيروت إلى العالم"، "بلازون" (أو لغة الفروسية)، عمل فنّي يعتمد على التواريخ الكثيرة، المتعاقبة والمتراكمة لبيروت، شفويةً كانت أم مكتوبة، فيحصيها وينظمّها ضمن منطق شخصي ليلفظها بأشكال مختلفة من رسوم وأسماء مطرّزة على رايات وأعلام بألوان زاهية تعكس التعدديّة الثقافية والإجتماعية والإرثية للمدينة.

ما قد يحسّه الزائر خلال عبوره تحت وبين الرايات الـ420 هو أنّه يدخل مدينةً سُطِّحت تضاريسها الجغرافية واختفت معالمها الماديّة ولم يبق فيها سوى رموز تعمل كأزرار توقظ عند الإحتكاك بها ذكريات ومشاعر بصرية وسمعية وحسيّة خاصة.

ومشروع رشماوي يقترح عملية بحث عن خطوط تماس جديدة فضفاضة وانسيابية في مدينة عرفت عمليات فصل وتقطيع قصرية لسنوات طويلة. تبدأ الزيارة المقترحة والفرضية في بيروت من مدخلها الجنوبي، أي عند حرج الصنوبر، لتتنقل بين البربير والمزرعة في اتجاه البحر الذي يتمثّل بحائط المعرض الأبيض ومن ثم صعوداً نحو الأشرفية عبر وسط بيروت. وتساعدنا في توجيه أنفسنا داخل دهليز الرايات أسماء الأحياء ورسوم لمعالم معروفة فيها من أبراج وأبنية حديثة نوعاً ما وأخرى قديمة، مثل ستاركو والهوليدي إن، وقصر سرسق وبناية "النهار" وكهرباء لبنان. وتتضمن الرحلة أيضاً محطات خفية تستنبط ذكريات أفراد وأحداث طبعت حيّاً معيّناً في زمن ماضٍ كوجوه مثلاً لشخصيات منسية مثل الجنرال سبيرز الذي يشير الشارع الذي يحمل اسمه إلى تواجد ماضٍ للإنكليز في بيروت. ويقوم رشماوي من خلال اختياره تمثيل الأحياء فقط عبر أسمائها ومعالم خاصة بها بخلق سرديات مبطّنة وغامضة تتحدّى محاولات اختزال المدينة وتأطيرها ضمن جمل من الأحداث التي غالباً ما تخدم رؤى سياسية واجتماعية حزبية أو طائفية.

ويقول الفنّان إنّ الحاضر الماضي للمدينة بالنسبة إليه، والذي يمثّله في عمله، لا يشبه ما يراه فيها ابن العشرين. ويتحدّث مثلاً عن اختياره لعلامة سوبرماركت "سبينيز" كرمز للمتاجر التجارية في أحياء المدينة. ويقول إنّ "سبينيز" هو جزء من أدبيات الحرب الأهلية وهو أول مكان يتذكّره في بيروت كان يحتوي على درج كهربائي.

والملفت في عمل رشماوي أنّه يستعمل لغة حرب "نبيلة" أو فروسية مختلفة جداً عن عنف وعبثية الحرب اللبنانية. ويقول رشماوي أنّ هدف الجولة في نهاية الأمر هو إدخال الزائر في حالة من اللا حرب وتفكيك الجيوش الرمزية المتعدّدة والقائمة في المدينة.

الطريف أنّ بعض الزوار رأوا في الحائط القائم في منتصف العمل تجسيداً للخط الأخضر الذي قسّم بيروت إلى غربية وشرقية أثناء الحرب الأهلية. والحقيقة أنّ موقع الحائط عرضيّ، وغير مقصود، إذ فرضت وجوده بكل بساطة عمارة المعرض.

وبموازاة الأعلام والرايات الفضفاضة، قام رشماوي بالتعبير عن الإختلاف بين أحياء المدينة من خلال خلق 59 درعا فولاذيا لكل منها، وضعها على الحائط وكأنها أغراض تذكارية في إشارة ربما إلى أنّ لغة الحرب أصبحت تقليداً فولكلورياً. واللافت أنّ الفنّان يلجأ إلى معايير محدّدة وعلمية في ظاهرها لخلق شعار لكل حيّ.

وفي ما يتخطى فكرة الحرب، عمل رشماوي يضعنا أيضاً أمام واقع المدينة الحالي حيث معالمها مهما كانت أهميتها الرمزية والتاريخية مهدّدة بالزوال على نحو مستمر وعلى وتيرة متسارعة، وكأننا نختبر وجودنا فيها دوماً عبر أطلال أو ذكريات لمعالم اختفت أو على وشك أنّ تختفي، وهو ما يدفعنا إلى امتصاص المدينة والإحتفاظ بها داخلياً على النحو الذي يحاكي شعورنا بها تحديداً لأنها موضوعياً وواقعياً في حالة تحوّل متوحشّة تتخطّانا كأفراد.

أعمال رشماوي السابقة تستقي مادتها أيضاً من جغرافية بيروت وتاريخها وهي تخلق مساحات لعمليات حوار بين أوجه المدينة المتعدّدة الهندسية والإجتماعية والتاريخية والثقافية.


* يستمر المعرض حتى ٧ أيار/مايو 2016 في صالة "صفير زيملر" - بيروت.
(الصور بكاميرا مروان رشماوي)
    

 

      

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها