الخميس 2016/12/08

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

يوسف بزي مُسافراً... باحثاً عن ذاته

الخميس 2016/12/08
يوسف بزي مُسافراً... باحثاً عن ذاته
increase حجم الخط decrease
أحسد يوسف بزي. أحسده على صراحته. بل على وقاحته وتعجرفه. فهو لا يتردد، مثلاً، في نعت الوافدين من الريف المصري إلى الإسكندرية بالغُزاة، أو سكان مدينة الجزائر بأجانبٍ احتلّوا المدينة الجميلة التي شيّدها الإستعمار الفرنسي؛ ولا يتردد أيضاً في مقارنة أهل الجزائر هؤلاء بمُهَجَّري زمن الحرب الأهلية اللبنانية الذين كانوا "يسكنون بيروت ويفرضون بصماتهم وآثارهم وعلاماتهم على الجدران والأبواب والشرفات والأرصفة" (ص 165). إنني أحسده على جُرأته هذه، أو ربما على لامبالاته بما قد تستثيره أقوالٌ كهذه من انزعاج واستياء لدى أشخاص كثيرين، من ضمنهم أنا. لكن بشكل خاص، أحسده على عدم اكتراثه بصورته التي في ذهن القارئ، على ترفُّعِه عنها واستخفافه بها. ما من سخرية هنا، فأنا حقاً أتمنى لو كنتُ أمتلك هذا التهوّر الذي يُبديه في قولِه لما يريد قولَه.


وما كنتُ، بالطبع، لأحسد شخصاً على تهوُّره في إطلاق آراء قد تستفزُّني، لو لم أُعجَب كثيراً بكتابَتِه. كتابة تتجاوز مضمونها الظَّاهريّ الأوليّ (أي الآراء والأفكار) وتتسامى عنه إذا صحّ التعبير، لتنقل إلى القارئ شيئاً مُختلفاً تماماً: علاقة الكاتب، الدفينة والمُلتبسة، بالدنيا، أو معركته معها.

هذا بالتحديد ما قام به يوسف بزي في عمله الصادر حديثاً: "ضاحية واحدة... مدن كثيرة"(*)، وهو مجموعة مقالات – كُتِبَت بين عاميّ 1995 و2015 – دوَّن فيها هذا الشاعر والصحافي اللبناني، ما انطبع في ذهنه من مُشاهدات ولقاءات، وما راوده من خواطر ومشاعر، خلال زياراته المُتعاقبة لعدّة مدن عربية وأوروبية (بالإضافة إلى اسطنبول وديار بكر وولاية "غُوا" الهندية).

بأسلوب دقيق، حِسّي ورشيق، شاعري أحياناً لكن أبعد ما يكون عن الغنائيّة إلى حدّ أنه يميل نحو القَسْوَة، يصوِّر لنا بزّي احتضار مدننا العربية. مدن بات أهلها غرباء عنها، لا يعرفون التعامل معها، ولا العيش فيها، كأنهم منفيون في أراضيهم، أو كأنهم من زمن أو حتى كوكب، ومِعمار أوطانهم من زمن أو كوكب آخر. هكذا يصف لنا الكاتبُ العاصمةَ الجزائرية: مكان مدهش وساحر، ذو فضاء هندسي عريق، إنجاز استعماري هو ترجمة لجبروت الكولونيالية الأوروبية وتمدُّنها؛ لكنه، مع ذلك، مكان مُهْمَل، مهترئ وعتيق، إذ ثمة بينه وبين ساكنيه – الذين لا يسكنوه حقاً، بل يعيشون فيه وكأنهم في إقامة مؤقتة – ما يمكن تسميته قطيعة ثقافية، بحيث إن نمط حياة أهل البلد وطقوسهم، نقيضٌ لما توحي به المباني، وأساليب هندستها، من تمدُّن وحداثة. وهكذا يرى بزي الإسكندرية أيضاً: مدينة مُصابة بداء الحنين إلى عصرها الذهبي، يوم كانت ثرية، عالمية كوزموبوليتيّة، "إستوطنها" الريفيون الفقراء، فأحالوا أبنيتها إلى صورة أخرى، "كأن نتخيّل قصراً فيكتوري الطراز وقد تحوّل إلى كاراج لتصليح السيارات" (ص 61). أما القاهرة التي انتفضت وصدَّرَت أحلامها بالتغيير إلى جميع المجتمعات العربية، فها هي عشية انتخاب السيسي ولم يبقَ في ميدان تحريرها شيء يُذكِّر بزمن الثورة: اختفت الخيم، واختفى المعتصمون والباعة الجوالون، كأن كل ما حدث قد انمحى، أو "كأن شعباً آخر استوطن الآن تلك الأمكنة" (ص 233).

هذا التحلل البطيء (أو السريع أحياناً) لمدن العرب، كما غربة ساكنيها عنها، يقابلهما، في هذه المقالات، حيويّة مدن الآخرين وازدهارها، حيث انسجام البشر مع الحجر. فما إن تَطَأ قدما يوسف بزي روما أو باريس، برلين أو اسطنبول، حتى يطرأ تحوُّل ملموس على أسلوبه: تختفي القَسْوَة، فيظهر شيء من الغنائيّة كان غائباً تماماً عن النصوص "العربية"، ويظهر في بعض من الأحيان، شيء من الملحمية ايضاً، عندما يشرع الكاتب، مثلاً، في تعداد الإنجازات العمرانية لمدن الآخرين، أو في وصف الخليط البشري المهول الذي تتسم به. ومع اختفاء القَسْوَة، تختفي الدقة ويختفي التبصُّر، فيغمض بزي عينيه ليسرح في أرض أحلامه. يتحوَّل إلى سائح. أو بمعنى آخر، يصبح عاجزاً عن رؤية ما هو أمامه، إذ إن كل ما يُبصره في بلاد الآخرين، لا يمثِّل، بالنسبة له، سوى النقيض التام لما أبصره في بلاد العرب.

وبالرغم من ذلك، تبقى جميع نصوص هذا الكتاب، أكانت عن القاهرة وبغداد، أو عن برلين وروما، شيّقة وممتعة للغاية، ذلك لأن ما تتمحور حوله حقيقةً ليس المدن في حّد ذاتها، بل علاقة الكاتب المأزومة بالأمكنة. ففي هذه المقالات، نحن لا نرى أبداً هذه المدينة أو تلك كما قد يبصرها عالِم أو باحث موضوعي وبارد، بل نرى يوسف بزي يَنبُش، بنظراته المحمومة، بعينيه الثاقبتَيْن أو اللتَيْن عليهما غشاوة، كل زاوية من زوايا المدينة، بحثاً عن ذاته. تلك الذات التي شرّحها أمامنا في المقالة الرائعة والعنيفة التي افتتح بها الكِتاب، وكأنه يعطينا المُفتاح لقراءة وفكّ رموز ما سيلي.

ففي هذا النصّ، يروي لنا بزي كيف احتلّ واستوطن، في شبابه زمن الحرب، شقة في حيّ فردان المُترف بعد أن تهجَّر من إحدى ضواحي بيروت الفقيرة. وحينما وجد نفسه وسط بيئة بورجوازية غنيّة ومدينيّة، أحسّ بفقره "مضاعفاً لأنه ليس فقراً بين فقراء أو في موضعه الجغرافي والسكاني، بقدر ما كان فقراً مرئياً ومعزولاً [...]" (ص 15). صار في الوقت عينه، يتوق إلى محاكاة أنماط العيش الراقية التي لم يعهدها أبداً من قبل، ويشعر بالخزي من فقره وسلوكه ومظهره، خزي زادت من حدّته "النظرات التي ليس فيها اشمئزاز واضح، بل احتقار موارب وملطَّف رغم لا نهائيته" (ص 16). وقد نتج عن كلّ شعور من هذين الشعورَيْن سلوكياتٌ غريزية، عدوانية في حالة الخزي، وجنسية في حالة التوق: راح بزي يُثار جنسياً لدى رؤية الديكور والأثاث في الشقة التي احتلها، إذ كانت تشتعل في مخيّلته صورٌ عن الحياة الرغيدة التي عرفها هذا المكان؛ وصار بزي يُدمِّر كلّ ما يُذَكِّره ببعده عن ما يتوق إليه، فيُخرِّب ويُكسِّر بيته الجديد وأثاثه، يُحطِّم زجاج منور الدرج، يتبوّل قرب أبواب الشقق المقفلة، إلخ.

ثم انتهى هذا الصراع المرير مع نفسه، بانتصار القيم البورجوازية الحديثة والمدينيّة داخل وعيه، فحلّت محلّ القيم الريفيّة التي كان قد جلبها معه من الضواحي الفقيرة. لكن بعد هذا التحوّل، بات بزي يرى ذاته القديمة في المُهجَّرين إلى بيروت، ثم أخذ يراها، تلك الذات المنبوذة، في سكان الضاحية الجنوبية حيث أُرغِم على المكوث لفترة من الزمن بعد انتهاء الحرب؛ وأخيراً، أضحى يراها، خلال أسفاره، مُتجسِّدةً في "غُزاة" المدن العربية، أولئك الفقراء الوافدين من الريف إلى المدينة، الذين لا يفقهون شيئاً من أنماط العيش الحديث والمديني. أما حينما يزور مدناً غير المدن العربية، فينمحي كل أثر لذاته القديمة، وتتنفس ذاته الحديثة الصعداء، إذ تغدو هذه المدن الأجنبية بأكملها، بمثابة انعكاسات مُضخَّمة لشقة حي فردان مثلما كانت قبل أن يُلطخّ يوسف المراهق جدرانها ببصماته.  

بهذه الطريقة يزجُّ يوسف بزي بنفسه في كتاباته، يقحم ذاته كاملةً، مع كلّ عيوبها، ويعرض نفسه للقارئ عارياً مسلوخَ الجلد كأنه يقول: هذا أنا على حقيقتي، هكذا أشعر، هكذا أفكّر، هكذا أحيا، ومن لا يستسيغ ذلك فليذهب إلى الجحيم! وهذا ما أحسدُه عليه.


(*) "ضاحية واحدة... مدن كثيرة" ليوسف بزي. "رياض الريس للكتب والنشر"، 2016. 352 صفحة، يوقعه مساء اليوم، 8 كانون الأول، بين الخامسة والتاسعة في معرض الكتاب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها