الثلاثاء 2016/12/27

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

الحلبية سماح وأختها صباح

الثلاثاء 2016/12/27
الحلبية سماح وأختها صباح
لا أعرف أين ديار سماح الآن، لا بد أنها أقوَتْ من القصف، وطال عليها سالف الرمد (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لا أعرف لمَ تذكرت الحسناء سماح؟
قال صديقي الروائي المغربي، على هيئة الجواب الذي يطمع في أن يكون سؤالاً، والأمل يجعل الأجوبة أسئلة، والأشواك وروداً، وصيحة الخوف أغنيةً في مقبرة: راحت حلب؟
 قلت: راحت بيد السفاح، وقلبي معها راح، وتحت العنب تفاح.

تعارفنا وتصاحبنا مصادفة على سواحل المنفى الأزرق، كان يتصل بي بين الفنية والأخرى، ويسأل عن حلب: هل ستسقط بأيدي الغزاة؟ الغازي معروف الصفات، يقتحم البلاد بالسلاح، وهذه أوصاف تنطبق على إيران وروسيا، والجوقة التابعة من العصائب والكتائب والزرائب، التي تشبه الكتيبة التي غزت سورية في الحركة التصحيحية، متقنعة بزي البعث العربي الاشتراكي. 

ما زال يسألني، كأني صاحب حلب، عشت في حلب عشر سنوات، كرهتها وأحببتها، فهي مدينة جبارة، مبنية كلها من الحجر الأبيض، البناء عظيم، الحدائق باسقة الأشجار، شوهت المدينة مثل أخواتها، لكنها صمدت أكثر من غيرها في وجه الفساد، ليست مثل دمشق، التي لم تتجاوز علاقتي بها بضعة أمكنة، هي مقاهٍ، أو وزارات ومؤسسات، فيها أختام ودور نشر.

كانت دمشق قد هجّنت، حتى ضاعت ملامحها تماما، بردى تحول إلى مجرور صرف غير صحي، الغوطة أمست صحراء ومكب قمامة، علماء الشام فروا، ولم يبق سوى المتصوفة، المتصوفة كانوا غالبا مع السيف في الشارع، ومع الشيخ في المسجد، الشيخ، وليس الله.

كانت دمشق هدف الغزاة الأول، أما حلب، فبدت لي مدينة لا تقهر، عريقة، فهي الثالثة في السلطنة العثمانية، التي كانت تحكم العالم يوما، هي القطب الأوحد. كان ملك فرنسا يرسل رسالة إلى السلطان العثماني، ولا يجرؤ على ذكره اسمه إلا بعد صفحتين من الألقاب السنية، وكانت السلطنة قد اخترعت مدفعا يجره سبعمائة رجل، ما يشبه النووي هذه الأيام.

رأى صديقي المغربي مثلي، على شاشات الأخبار، مجموعة من شباب حلب الموالين يعلنون النصر بعد تدمير حلب من السماء بالبراميل والنابلم والقنابل الفراغية والعنقودية، بوتين هو صاحب عملية اسمها "الغرزنة"، التي ستدخل القاموس يوماً، أما إيران، فهي تمهد لقدوم مهديها المنتظر الذي لن يأتي إلا على سجاد أحمر من دماء أهل السنة، كانوا يهتفون بهتاف النصر القديم الذي ابتدع ردا على هتاف الله سوريا وحرية وبس: الله سوريا بشار وبس، لم يتغيّر الهتاف، لم يتغير شيء، هم مسرورون الآن، لن يطول سرورهم، سيتحولون عبيداً لدى فلاديمير أو سليماني. إنّ حزناً في ساعة الدحر أضعاف سرورٍ في ساعة الإفساد.  

قال: أغرمت بحلبية في رحلة سفر، اسمها صباح، الحلبيات جميلات، وعنيدات، ألا توافقني؟
تذكرت أنه كان في كليّتي حلبيات جميلات، وزميلة اسمها سماح، وكانت زميلاتها ينادينها موحة، صبية عبلاء، ريانة، كأنما سقيت بماء العافية، وكان زميلي الحموي مازن، لا يكف عن إبداء الإعجاب بها، ويتفطر، مثل كبد فحل يسيل من فمه الرغاء من شدة الغلمة، ويقول: لن تملأ امرأة رأسي مثل هذه المرأة. جسدها كأنما قدّ من اللحم الصخري. كلما نظر إليها المرء ازداد عطشاً، مثل ماء البحر، وكان يقف بجانبها في الاستراحة، وهي تتحدث مع زميلاتها، يراقب حركة شفتيها، وبعد انتهاء المحاضرات يلاحقها إلى منزلها في حي الجميلية مشياً، ليتمتع بمشهد مشيتها، التي تشبه رقصة السماح، ومنظرها الذي يشبه العنب، وتحت العنب تفاح.

كان زميلي الحموي، الذي يصلي سراً، قد لبس صليباً يوماً، من أجل التقيّة، فعيّره بعض الزملاء الذين لم تعان مدنهم أو قراهم مما عانت منه حماة، وكان يرقص مثل السعدان في حفلات التعارف الجماعية، ولا يكفُّ عن البرهان بأنه مرتد، وبعد سنوات كشف لي قائلا:
 كل إخوتي قتلوا، أنا الذكر الوحيد الباقي من الأسرة، نجوت من المجزرة بمعجزة، وكنت أظنّ أن الصليب والرقص سيجعلاني مواطناً صالحاً، أقصى ما بلغته هو رتبة "حيادي سلبي".

حكايتي مثل حكاية الديك الذي امتنع من الأذان لينجو بحياته، ثم على النصب، وهو يذبح قال: ليتني متّ مؤذناً.

سألني صديقي الروائي المغربي: هل سيأتي الدور على الدار البيضاء والرباط؟
قلت: العواصم على الدور يا صديق، فلم أكن أصدق يوماً أن تسقط ثالث أكبر عاصمة بالشرق الأوسط، سقطت القلعة، عدَّ معي على أصابعك: بيروت، بغداد، دمشق، صنعاء، والقاهرة قاب قوسين أو أدنى من السقوط، فهي ستسقط من غير حرب أو حصان طروادة، ستسقط بالرز.

كان مازن الحموي يجفّ شوقا إلى سموحة تحت شمس الرغبات، كانت تمشي، وكأنها ترقص رقصة السماح، كأنها تصب ملحاً على قلبه المستباح. حلب مدينة مستقلة، يمكنها أن تكون دولة وحدها يا صاحبي، لا حصة لحلب في مسلسلات الشام، بقيت حلب على الهامش، خلا مرات قليلة، كأن تستجلب ممثلة حلبية لتمثل دور زوجة أبي الهنا في مسلسل "أبو الهنا"، تفوقت عليها ضيعة اسمها السمرا، وصار لها لهجة مترجمة.

راغ مازن الحموي مثل الثعلب في حياته الجامعية، لكنه لم يقل يوما للعنب حصرم: وكان تحت العنب تفاح، يعصر المرء منه الراح بالأقداح.

لا أعرف ما أخبار مازن الحموي، ليست له صفحة في "فايسبوك"، ولا أعرف إن كان له قبر، فكثيرون دفنوا تحت الأنقاض، من ليس له وطن، ليس له قبر، ولا أعرف أين ديار سماح الآن، لا بد أنها أقوَتْ من القصف، وطال عليها سالف الرمد، كلما ظهرت أخبار على التلفزيون، أتفرس في وجوه النازحين، أبحث عنها، ربما اغتصبت، شهية الاغتصاب مفتوحة لدى الغزاة، الحلبيات جميلات، وبيضاوات مثل الحليب، رومانيات الأصل يا خاي، كانت تملأ الرأس، أظن أنها ستظل جميلة حتى الخمسين، مشيتها رقصة سماح، ووجهها مثل فلق الصباح، كانت تشبه حبة العنب، وتحت العنب تفاح.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب