الإثنين 2016/12/26

آخر تحديث: 13:13 (بيروت)

في عالم نجيب محفوظ: صعود وانهيار دولة الموظفين

الإثنين 2016/12/26
في عالم نجيب محفوظ: صعود وانهيار دولة الموظفين
عاش محفوظ حياته موظفا ملتزماً، "رجل الساعة"، كما أطلق عليه
increase حجم الخط decrease
بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل سأله الروائي جمال الغيطاني: لو رجع الزمن ومعك أموال نوبل، هل ستختار الوظيفة أيضا؟

وأجاب محفوظ: طبعا لا... مستحيل أن أسلك طريق الوظيفة، ما كنتش أستمر كموظف.

لكن تلك الإجابة لا تعني أن نجيب محفوظ كان كارها لعمله، بل على العكس، ربما وقع محفوظ في غرام العمل الوظيفي. يقول محفوظ في سياق آخر: "عشت عمري كموظف، وأديب، ولو لم أكن موظفاً لما كنت اتخذت النظام في الاعتبار، كنت فعلت ما أشاء وفي أي ساعة أشاء، لكنني في هذه الحالة، كان على أن استيقظ في ساعة معينة، وأكون في الوظيفة في ساعة معينة، ويتبقى لي من اليوم ساعات معينة، فإن لم أنظم هذا اليوم فسأفقد السيطرة عليه".

عاش محفوظ حياته موظفا ملتزماً "رجل الساعة" كما أطلق عليه الكاتب محمد عفيفي، بدأ حياته الوظيفية عام 1943، وشغل العديد من الوظائف الرسمية، من بينها سكرتيراً برلمانياً في وزارة الأوقاف حتى العام 1945، ثم انتقل للعمل في مكتبة الغوري في الأزهر، ثم مديراً لمؤسسة "القرض الحسن" في وزارة الأوقاف حتى عام 1954.

عمل محفوظ أيضا مديراً لمكتب وزير الإرشاد، ثم مديراً لـ"الرقابة على المصنفات الفنية" في عهد وزير الثقافة ثروت عكاشة، وفي عام 1960 عمل مديراً عاماً لمؤسسة "دعم السينما"، ثم مستشاراً للمؤسسة العامة للسينما والإذاعة والتلفزيون عام 1962، ثم عيّن رئيساً لمجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما في أكتوبر 1966، إلى أن أحيل إلى التقاعد في العام 1971 فانضم إلى مؤسسة الأهرام.

صحيح أن حياته الوظيفية لم تسر كما خطط لها، فقد كان يخطط منذ البداية أن يحيل نفسه إلى التقاعد عند بلوغه السن الذي يستحق فيه معاشاً كاملاً، وعندما وصل إلى هذا السن، كانت المتطلبات المادية أكثر فبقي في وظيفته حتى بلوغه السن القانونية، لكنه رغم ذلك أحب الوظيفة، إذ تأقلمت معها شخصيته المنظمة المنضبطة.

منذ العام 1955 كان قد وصل إلى المكانة التي تمكنه من العيش من عائد الأدب، لكن بعد انتشار ظاهرة تزوير الكتب خارج مصر أصبح الأمر مستحيلا، فرفض التفرغ للعمل في الصحافة خوفا من الضياع في وظيفة لم يُعد نفسه لها، أو ربما لا تصلح لشخصيته. وبحسب رجاء النقاش فإن محفوظ رفض العمل في الصحافة رفضا قاطعا رغم الإغراءات الكثيرة التي قدمتها إليه مؤسسة صحفية كبرى ليترك وظيفته الحكومية ويتفرغ للعمل الصحفي. وقد رأي محفوظ نفسه أن العمل الأدبي إذا ما فقد روح الاستقلال وأصبح مرتبطا بعجلة الإنتاج الصحفي السريع المتلاحق فإنه يتعرض لضرر كبير. وعندما ارتبط بصحيفة "الأهرام" كان هذا الارتباط أدبيا وليس صحفياً، أي أنه لم يكن مرتبطا بالعمل الصحفي اليومي الدائم، بل كان هذا الارتباط قائما علي أساس واحد، وهو أن يقدم نجيب محفوظ أعماله الأدبية التي ينجزها في الوقت المناسب له.

الانخراط في عالم الوظيفة والموظفين أتاح لنجيب محفوظ معرفه خبايا ذلك العالم، التي تخفي على غير المنتمين له، وأتاحت له الوظيفة التعامل اليومي مع نماذج لا حصر لها. في وقائع الجلسات التي دونها الغيطاني، يقول محفوظ: "من أخصب فترات الوظيفة، المرحلة التي عملت خلالها في وزارة الأوقاف... كنت ترى المستحقين، ونوعيات مختلفة بدءا من حفيد السلطان عبد الحميد، إلى فلاح فقير له حصة في وقف. كان فيها حاجات عجيبة".

نماذج استعادها في أعماله بعد ذلك، فكانت أغلب شخصيات رواياته موظفين: أحمد عاكف في "خان الخليلي"، محجوب عبد الدايم في "القاهرة الجديدة"، حسين كامل في "بداية ونهاية"، كامل رؤبة لاظ في "السراب"، ياسين وكمال ورضوان وعبد المنعم في "الثلاثية"، عيسى الدباغ في "السمان والخريف"، أنيس زكي في "ثرثرة فوق النيل"، سرحان البحيري في "ميرامار"، حامد برهان في "الباقي من الزمن ساعة"، إسماعيل قدري في "قشتمر"، عثمان بيومي في "حضرة المحترم"، وهي الرواية التي تصل إلى الذروة في تجسديها غير المسبوق لنفسية الموظف وملامح عالم الموظفين في الواقع المصري.

الاقتراب من هذا العالم كما يقول الناقد مصطفى بيومي في دراسته الجديدة "الوظيفة والموظفون في عالم نجيب محفوظ" التي صدرت مؤخراً، مكّن محفوظ من رصد دقائقه والتجسيد الواقعي الأخاذ، موضوعياً وفنيا لكل ما فيه من سمات.

في "حضرة المحترم" يرتفع عثمان بيومي، أبرز أبطال نجيب محفوظ من الموظفين، بالوظيفة الحكومية إلى ذروة غير معهودة، يضفي عليها قداسة خاصة، ويحولها إلى مثل أعلى وطقس ديني، وتكشف كلماته عن وعيه/وعي الروائي، بأهمية الوظيفة والدور الخطير الذي تلعبه في الحياة المصرية: "إن الموظف مضمون غامض لم يُفهم على الوجه الصحيح بعد. الوظيفة في تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة. إن يكن المثل الأعلى في البلدان الأخرى محاربا أو سياسيا أو تاجرا أو رجل صناعة أو بحارا، فهو في مصر الموظف.. وفرعون نفسه لم يكن إلا موظفا معينا من قبل الآلهة في السماء ليحكم الوادي من خلال طقوس دينية وتعاليم إدارية ومالية وتنظيمية".

لكن تلك المكانة المقدسة لم تكن على حال واحد، فتراوحت بين الصعود للقمة والسقوط إلى القاع، كما ترصد دراسة بيومي؛ فلم تكن أسرتا كامل أفندي على، في "بداية ونهاية"، وعبد القوى البيه، في "صباح الورد"، بالاستثناء النادر غير المألوف للتوازن النسبي الذي يحظى به الموظفون، على الصعيد المادي، في الثلاثينيات من القرن العشرين. ففي ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة، بكل ما يترتب عليها من نتائج وتداعيات، كان الموظف الصغير حامد برهان، رب الأسرة في "الباقي من الزمن ساعة"، يعيش هو وأفراد عائلته في حالة من الرخاء المؤقت، مثله في ذلك مثل الموظفين من ذوي المرتبات الثابتة: "ممن وجدوا يسرا في ظل الكساد وهبوط الأسعار".

خلال تلك المرحلة التاريخية، كان المرتب الشهري الثابت للموظف الصغير كفيلاً بتحقيق حياة مستقرة، ولم يكن الموظف الجديد الشاب يجد صعوبة تذكر في الزواج وتكوين أسرة، معتمداً في ذلك على الجنيهات المحدودات التي يقبضها.

في "المرايا"، يقول عباس فوزي لزميله، في معرض الحديث عن الزواج: "صافي مرتبك ثمانية جنيهات، وهي تكفي للزواج من اثنتين!".

يرى بيومي أن المقولة ربما لا تخلو من مبالغة ساخرة، لكنها تنم بوضوح عن الرخاء النسبي، حيث لا يجد الموظفون صغار السن صعوبة في التأقلم مع أعباء الحياة الأسرية. وليس أدل على ذلك مما نجده في قصة "أسعد الله مساءك" ومجموعة "صباح الورد" فبعد حصوله على ليسانس الحقوق، يلتحق حليم بوظيفة صغيرة في وزارة المعارف، ويقول لجارته وحبيبته ملك، كالمعتذر:

- الوظائف الممتازة نادرة جدا اليوم.
فتقول بمرح:
- مفهوم... لا داعي للأسف..
- ثمانية جنيهات فيها الكفاية.
- وفوق الكفاية...

ثمانية جنيهات فيها الكفاية، وما فوق الكفاية، لكن التحولات الاقتصادية والاجتماعية تطيح بالاستقرار الهش لدولة الموظفين، ويتعرض صغارهم لأعاصير عاتية لا قبل لهم بمواجهتها. وبحسب الدراسة فإن عالم نجيب محفوظ لا ينشغل بالتعاطف مع كبار الموظفين، أصحاب السطوة والنفوذ والمرتبات الضخمة، وينصب اهتمامه الأكبر على الطبقة الدنيا ممن يشكلون الغالبية العظمى التعيسة المقهورة.

تزول دولة الموظفين، بعد سيطرة دامت عقودا متوالية. مكانتهم الاجتماعية تتراجع بالتوافق مع انهيارهم الاقتصادي، يتراجع سحر الوظيفة مع تغير الحياة وتبدل المفاهيم والقيم، "فبعد أن كانت الوظيفة الحكومية أشبه بالفاكهة المحرمة في عالم الفقراء، وبعد أن كانت كلمة الموظف حلم كل أم لابنها، وطموح كل فتاة في زواجها، لم يعد للوظيفة من شأن يذكر، وتدهورت مكانة الموظف، لأسباب اقتصادية في المقام الأول".

تلك النقطة من ألمع ما في الكتاب، فالمؤلف المتعمق في عالم نجيب محفوظ، يسير بما يشبه التتبع الزمني لكتاباته، وهو في الوقت نفسه تسلسل زمني يمكن من خلاله رصد التحولات السياسية والاجتماعية في مصر بالكامل، فيمكن من خلال الكتاب متابعة أحوال الموظفين وبالتالي أحوال مصر من خلال ما يحدث للوظيفية والموظفين من تطورات وتحولات.

ترصد الدارسة أيضا كيف تتعامل الشخصيات مع الوظيفة، فالرشوة هي المصدر الأساسي الذي يعتمد عليه هؤلاء الموظفون، والانسجام قائم بينهم عبر نظام محكم، أما الموظف الأخلاقي فهو النشاز الذي يهدد ما ينعمون به من ثمار الفساد.

ولأن المتاجرة بالوظائف مهنة مربحة، فإن احترافها مستمر على مدى العهود، النائب الوفدي الدكتور زهير كامل، في "المرايا" ينحدر في درب الفساد: "يقال إنه أصبح سمسار وظائف". والمسألة بالطبع لا تتوقف عند حدود الرشوة المادية للحصول على وساطة تمكن من الوصول إلى الوظيفة، فالثمن الجنسي، السوي والشاذ، موجود أيضاً. أحمد مدحت في "القاهرة الجديدة" ورضوان ياسين في "السكرية" يعتمدان على الجمال والشذوذ الجنسي، أما خليل في "المرايا" فإنه يتحول من قواد وبلطجي إلى موظف "ابتسم له الحظ فقدم خدمة غرامية لطبيب كبير".

لعل الثمن الأفدح هو ما دفعه محجوب عبد الدايم للحصول على الوظيفة، إذ يتزوج من الحسناء إحسان شحاتة، عشيقة قاسم بك فهمي، ويرضى أن يعمل قواداً لزوجته، مقابل التعيين في الوظيفة الفاخرة!

والأهم أن كل تلك النماذج استقاها محفوظ من عمله الوظيفي الفعلي فكما يحكى للغيطاني: "عاصرت الوظيفة في أطوار مختلفة، لم تكن هناك قوانين تحمى الموظف، أول قانون عمله أمين عثمان في وزارة النحاس سنة 1942، عدا ذلك لم يكن يتقدم في الحكومة إلا أوباشها، كان هناك من يبيعون أعراضهم، كنا نعرف أن مدير مكتب أحد الوزراء أعد شقه خاصة للوزير، أضف إلى ذلك انتشار الشواذ، يعنى نموذج محجوب عبد الدايم، ورضوان بن ياسين في الثلاثية كان منتشرا جدا، كانت أياما شبيهة بأيام المماليك".

تلفت الدراسة أيضا إلى غرابة التمييز الشعبي بين "العمل" و"الوظيفة" عند التعامل مع المرأة، فالأغلب الأعم من نساء نجيب محفوظ الشعبيات عاملات كادحات في مهن شتى، تفرض عليهن النزول إلى الشارع والسوق، بل إن تكاسل المرأة عن العمل يُعدُ مما يعيبها ويؤخذ عليها. في "شهد الملكة" الحكاية السادسة من ملحمة "الحرافيش" بعد فترة قصيرة من زواج عبدربه الفران وزهيرة، يتساءل الزوج كأنه ينبه إلى حقيقة غائبة: "هل تقبعين في البيت كما تفعل الهوانم؟"، ثم يضيف بحزم: "اليد البطالة نجسة!".

يتساءل المؤلف ما الذي يدفع المجتمع إلى التسامح مع عمل المرأة في الأسواق، والحض عليه إن هي تكاسلت، والتحفظ على الالتحاق بالوظيفة الحكومية؟

ويجيب بأن جانباً من الموقف يتمثل في غياب المؤهلات التي تتيح للمرأة غير المتعلمة أن تعمل في الحكومة، بما يجعل الأمر كله بعيدا عن الطرح والاستيعاب والقدرة على التخيل. يستشهد المؤلف هنا بالحكاية التاسعة من "حكايات حارتنا" حكاية توحيدة، أول موظفة في الحارة: "خبر يتردد في البيت والحارة عن توحيدة بنت أم علي بنت عم رجب. توظفت في الحكومة! تذهب إلى الوزارة وتجالس الرجال".

- لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنها من أسرة طيبة.. وأمها طيبة.. وأبوها رجل صحيح!".

تجسد الحكاية موقف المجتمع المصري من عمل المرأة قبل ثورة 1919 وهو موقف موغل في التعنت والسلبية. ويدور الزمن دورته، فتتغير ملامح الصورة القديمة، ويتحول الصراع والجدال حول عمل المرأة إلى ما يشبه الذكرى. وفى "المرايا" جسّد محفوظ الرحلة كلها عبر شخصيتي عبدة سليمان، التي تُعين في أيام الحرب العالمية الثانية، وكاميليا زهران، فيعقد مقارنة بين جيلين كاملين، من خلال نموذجي عبدة وكاميليا: "يوم أن أقبلت علينا في السكرتيرة بفستانها الأنيق وشعرها الأسود المقصوص المطوق لرأسها، تذكرت عبدة سليمان، ولكن ما أبعد المسافة بين عام 1944 وعام 1965!".

أخلص الناقد مصطفي بيومي لعالم أديب نوبل، صدر له حتى الآن أربعون كتابا في النقد نصفها عن نجيب محفوظ. صدر الكتاب الأخير عن دار "الهلال".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها