الإثنين 2016/12/26

آخر تحديث: 13:37 (بيروت)

2016: استدعاء "الرجل الكبير"

الإثنين 2016/12/26
2016: استدعاء "الرجل الكبير"
نجيب محفوظ في المقهى (غيتي)
increase حجم الخط decrease
رحل نجيب محفوظ في آب/أغسطس 2006، فصنعت الجماعة الثقافية، من بعده، طقساً تمارسه مرتين في العام: الاحتفال بذكرى رحيله في أغسطس، ثم ميلاده في ديسمبر. طقس لا يشبه في حفاوته الاحتفال بموالد الأولياء والقديسين في مصر، بل بضع أمسيات نقاشية وكم هائل من الملفات الصحفية عن أدبه وما خلفه من إرث سردي، في تكرار دؤوب تحول مع السنين إلى مزحة سخيفة لا أكثر.

لكن هذا العام 2016، كان مختلفاً عن الأعوام التسعة السابقة، فلم يُعد الهيبة لصاحب نوبل. على العكس كان أكثر الأعوام تعريضاً بشخصه وبمنجزه الإبداعي، من دون الحاجة إلى ملفات عن ذكرى الوفاة والميلاد.

أحلام مزيفة

في الأسابيع الأخيرة من عام 2015، أصدرت دار الشروق المصرية، الجزء الثاني من "أحلام فترة النقاهة"، والتي عُثر على مخطوطتها بعد وفاة زوجة محفوظ في كانون الأول/ديسمبر 2014. وبدلاً من الاحتفاء بالكتاب، أثير العديد من الأسئلة حول صحة نسب النصوص إلى نجيب محفوظ، وهدف دار الشروق من وراء نشر ما لم يقدم على نشره صاحب الأحلام في حياته. واستمر اللغط حول الكتاب مُثاراً بصخبه، حتى هلَّ العام الجديد، ما دفع ابنتيه، وهما المتحفظتان على الظهور إعلامياً، للتصريح صحفياً، في أكثر من مناسبة، دفاعاً عن صحة نسب الأحلام إلى والديهما.

"أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة"، هي الجزء الثاني من الأحلام التي صدرت لأول مرة في العام 2004، إذ وجدت  فاطمة وأم كلثوم، 297 حلماً جديداً في أيار/مايو 2015، أثناء ترتيبهما لغرفة أبيهما، عقب وفاة أمهما السيدة عطية الله. الحقيقة، إن القارئ المتدبر لذلك الكتاب، يستطيع الجزم بصحة نسبه إلى صحبه، بل قد يكتشف ملامح جديدة من شخصية محفوظ لم تكن بالوضوح ذاته قبل ظهور الأحلام الأخيرة.

إلغاء نجيب

في فبراير 2016، قررت "هيئة الكتاب المصرية" إلغاء سلسلة كتب تحمل اسم "نجيب محفوظ"، بحجة تطوير خطة النشر في الهيئة، والتي تستلزم إلغاء بعض السلاسل ودمج بعضها الآخر، خصوصاً تلك التي ليس "لديها موضوع محدد وخطة نشر طويلة المدى"، بحسب وصف رئيس الهيئة هيثم الحاج علي.

ولم تكن السلسلة التي أطلقت في العام 2006، عقب وفاة محفوظ مباشرة، برئاسة تحرير الروائي يوسف القعيد، ذات صيت ذائع ضمن سلاسل نشر الهيئة الـ34، والتي قُلّص عددها إلى 22 سلسلة في إطار الخطة الجديدة، أو صاحبة قدر كبير من الإصدارات. فلم يصدر عنها خلال السنوات العشر الماضية، سوى أقل من عشرين كتابا فقط. لكن الحاج علي، أكد أنه سيتم تحويل السلسلة إلى مشروع ضمن مشروعات النشر العام في "هيئة الكتاب". مشروع لا يزال مبهماً حتى الآن، فيما لم تظهر تحت إطاره أي إصدارات جديدة منذ إلغاء السلسلة.

متحف الوعد الانتخابي

غير أن تلك السلسلة ليست الخطوة الوحيدة غير المدروسة، التي أقدمت عليها الدولة المصرية في إطار احتفائها، المزيف، بالإرث المحفوظي. فعقب وفاته أيضاً أصدر وزير الثقافة وقتها فاروق حسني، قرارا بتشكيل لجنة برئاسة جابر عصفور، لإنشاء متحف يضم أعمال محفوظ القصصية والروائية بطبعاتها وترجماتها المختلفة، وكذلك الأوسمة والجوائز التى حصل عليها والدراسات النقدية والأكاديمية التى تناولت إبداعاته، وأيضًا سجله الوظيفي وما كتب عنه فى الصحف. مرت السنين وتعاقبت الحكومات، ولا جديد يذكر في شأن المتحف، بل تحول افتتاحه مع قدوم أي وزير جديد إلى كرسي الثقافة، كوعد انتخابي، الذي يقطعه نواب البرلمان على أنفسهم ولا يفون به. وكان الوزير الحالي حلمي النمنم، أخر من قطع الوعود، حيث أكد في نهاية العام 2015 افتتاح المتحف في ذكرى ميلاد محفوظ في ديسمبر 2016. جريدة "اليوم السابع" المصرية أجرت منذ أيام قليلة تحقيقاً مصوراً عن حال "تكية أبو الدهب" التي اختيرت كأحدى أبرز المواقع الأثرية في القاهرة الفاطمية لتكون متحفا لمحفوظ، كشف عن بطء شديد في سير العمل على تجهيزها وعكس انعدام أي أمل في افتتاحها سواء في القريب العاجل أو على المدى البعيد.

أفراح القبة

ربما يكون مسلسل "أفراح القبة" الذي بُثّ في رمضان الماضي، إحدى الحسنات القليلة للعام الذي كاد أن ينتهي، فقد حقق المسلسل الذي أخرجه محمد ياسين، وعالجته درامياً نشوى زايد، وقام ببطولته منى زكي وإياد نصار وجمال سليمان وصابرين، نجاحاً جماهيرياً كبيراً أدى إلى إعادة الإقبال على قراءة الرواية مرة أخرى، ودفع بها إلى قوائم "البيست سيلر" التي كانت تحتلها فيما سبق روايات خفيفة ومتواضعة.

برلمان خدش الحياء

لا يبدو أن كل معالجة درامية لأعمال محفوظ قد تصب في صالحه، إذ خرج علينا نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، أحد نواب البرلمان المصري، واصفاً أعمال صاحب الثلاثية بـ"الخادشة للحياء". فقال النائب أبو المعاطي مصطفى، إن "السكرية وقصر الشوق فيهم خدش حياء ونجيب محفوط يستحق العقاب بس محدش وقتها حرك الدعوى الجنائية". وجاء التصريح في معرض وقائع جلسة للجنة التشريعية بالبرلمان، لمناقشة إلغاء عقوبة الحبس فى جرائم النشر الخاصة بـ"خدش الحياء". النائب حين حاول تحسين صورته بعدما لاقاه من هجوم بسبب تصريحه، لم يبدِ غير جهالة أكبر، فقال لاحقاً، إن "أفلام نجيب محفوظ بس هي التي خدش فيها حياء، كل المسلسلات والأفلام النهاردة عُرى، أولا نجيب محفوظ لم يمثل في الفيلم، يتعاقب من مثل الفيلم ومن وضع السيناريو واللى أخرجوه واللى أنتجوه دول اللى يتعاقبوا، فممكن النص كتب بشكل وتم تمثيله بشكل آخر". ثم أردف "قرأت لنجيب محفوظ عندما كنت صغيرا روايتي الجبل والحرافيش، ولست ناقدا أدبيا لتقييم أعماله، هو كاتب رائع ومحترم ولكنه عبر عن القاع المصري بشكل خارج وفظ، وهو حد حرك دعوى جنائية ضده علشان نتكلم يتعاقب ولا لا، مقلتش مجرم أو أنه مش محترم، ولكن نريد الحفاظ على قيم المجتمع، فالأعمال السابقة ينطبق عليها مفهوم خدش الحياء ولكن الأهم تحريك الدعوة القضائية ضده والنيابة العامة هي من تحركها".

العثور على الشحاذ

ولا يبدو رد فعل البرلماني المصري جديداً على الأداء السياسي المصري تجاه أدب نجيب محفوظ، إذ كشف سكرتير الرئيس عبد الناصر لشؤون المعلومات سامي شرف، أن ‬هناك مثقفون وسياسيون،‮ ‬أرسلوا مذكرات احتجاج،‮ ‬وتقارير ضد رواية "أولاد حارتنا" بعد نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام. وأكد شرف، في ملف أعده الصحفي محمد شعير، في جريدة "أخبار الأدب" في عدد الأحد 11 ديسمبر،‮ أن هذه التقارير "‬لا تزال موجودة في أرشيف رئاسة الجمهورية في قصر عابدين،‮ ‬كما كان المشير عبد الحكيم عامر‮ ‬غاضباً من الرواية،‮ ‬وقد رفض عبد الناصر اتخاذ أي إجراء ضد محفوظ بسبب الرواية‮".‬

ولم يكن ذلك التصريح إلا خطوة في طريق قطعه شعير، للبحث عن المخطوط الأصلي لرواية "أولاد حارتنا"، الذي فقد بالكامل، في حين صدرت الرواية سواء في صورتها المسلسلة في جريدة الأهرام أو مطبوعة في "دار الآداب" اللبنانية غير مكتملة، وذلك بحسب تأكيد محفوظ نفسه.

ويعد الملف الذي نشرته "أخبار الأدب"، أكثر النقاط إضاءة في مسار هذا العام المسيئة أحداثه إلى اسم نجيب محفوظ. فالكاتب الذي وصف نفسه بـ"ملك التمزيق" لم يخلف أي وثائق أو مخطوطات لأعماله، إلا أن الصدفة قادت الرئيس السابق لتحرير مجلة "عالم الكتاب"، لاكتشاف صندوق احتفظت به السيدة عطية الله إبراهيم، زوجة محفوظ، يضم المخطوطات الكاملة لروايتي "الشحاذ" و"ميرامار"، وهي بحسب شعير "أول ورقة يعثر عليها ناقد أو‮ (‬باحث أدبي)" ‬بخط محفوظ تتضمن نسخة الكتابة الأولى لرواياته".

وتكشف المسودات أن نجيب محفوظ كان يكتب أولا بالقلم الرصاص، على ورق "‬فلوسكاب‮" ‬مسطر، ثم يجري التغيرات "في هامش الصفحة،‮ ‬وفي معظم الأحيان في الجانب الآخر من الصفحة ذاتها،‮ ‬إذا كانت التغيرات كثيرة‮. ‬أي أن الصفحة الواحدة تشهد‮ "‬مسودتين‮" ‬للعمل، و"بعد أن ينتهي من الكتابة الأولى تبدأ مرحلة ‬التشطيب‮"، أما "الكتابة الأخيرة،‮ ‬فيكتبها محفوظ على نوع الورق نفسه،‮ ‬ولكن بالقلم الحبر،‮ ‬(...) ‬في تلك المرحلة لا مكان للشطب،‮ ‬إذا حدث وكشط كلمة واحدة،‮ ‬فإنه يعيد كتابة الصفحة من البداية".

وفي مقاربة عقدها شعير بين المسودة الأولى "وجه الصفحة" والثانية "ظهرها" والرواية المنشورة، اكتشف أن التغييرات التي أجراها محفوظ، كلها، لم تكن على الأفكار العامة للرواية، وإنما على اللغة السردية، فبدت "معركة محفوظ الفنية داخل الرواية،‮ ‬مع‮ ‬اللغة بالأساس،‮ ‬كأنه من كتاب الجماليات،‮ ‬لا الأفكار".

ولا يبدو هذا الاختصار المخل لما جاء في المخطوطة، منصفاً لبحث شعير، الذي بدأ برحلة طويلة تتبع فيها مصير "أولاد حارتنا"، وانتهى بتحليل دقيق لما وُجِدَ من أوراق داخل الصندوق الصغير الذي تركته زوجة محفوظ، لكنه أضاء على ما يمثله ذلك الكشف من تعزية لما حواه هذا العام الطويل من التعرض إلى "الرجل الكبير"، إما بالإهمال تارة أو بالتعرض لسيرته تارة أخرى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها