السبت 2016/12/24

آخر تحديث: 13:53 (بيروت)

"الأيدي الخفية".. الهجرة لا تحتاج أعذاراً

السبت 2016/12/24
increase حجم الخط decrease
ماذا يتعلم المهاجرون غير الشرعيين من أوروبا والأوروبيين؟ يجيب الرسام الفنلندي، فيلا تيتافاينن: المشقة واليأس، وعدم المساواة بين البشر.

لكن تلك الإجابة ليست ملخّصاً لما حوته الرواية الفنلندية المُصوّرة "الأيدي الخفية"، فالبرغم من أن الأوروبيين في قصة تيتافاينن، جشعون وعنصريون يستفيدون من أشخاص مغلوب على أمرهم، لا يبدو اللاجئون في الوقت نفسه مثل ملائكة، بل قد يقتلون ويسرقون، وهم متنابذون يلقي كل عِرق اللوم على الآخر باعتباره المتسبب الرئيسي في سوء أوضاع اللاجئين في أوروبا.

تدور أحداث رواية "الأيدي الخفية" حول قصة المغربي "رشيد"، الذي يقرر في بداية الألفية، الهجرة بشكل غير شرعي إلى أسبانيا، ففي رقبته عائلة من أب وأم وزوجة وابنة صغيرة ولا سبيل لإعالتهم -بعد انعدام سبل الرزق في بلدته- إلا السفر إلى أوروبا. وترصد الرواية الوضع الصعب الذي يجد فيه نفسه هناك، حيث يضطر للعمل بشكل غير شرعي في مزرعة، ثم يهرب إلى برشلونة بعد أن تتبدد آماله بأنجاز الثراء في تلك المزرعة، وفي برشلونة لا يكون الوضع أفضل، إذ يتعرض للمجتمع الخفي للبضائع غير المشروعة والمخدرات والدعارة.

وفيما تبدو القصة نمطية، يظهر المؤلف كمن بذل جهدًا بحثيًا دقيقًا لصياغة صورة أقرب للمجتمع المغربي من وجهة نظر عربية أكثر منها استشراقية. فتركز الرواية على الوضع الاجتماعي لرشيد وعائلته، وأحلامه كإنسان، فيما تهمش كل الرؤى الاستشراقية المسبقة عن المغرب باعتباره منبعًا لأعمال السحر والشعوذة. على العكس يصبغ تيتافاينن بطل روايته بصبغة تقدمية، إذ ينبذ في كثير من الأحيان خيارات اللجوء للسحر لتجاوز أزماته الحياتية، كذلك تتخذ صورة المسلم العربي اللاجئ إلى أوروبا في الرواية صورًا متباينة، يبدو في أغلبها منفتحًا على الحياة رافضًا التطرف، على عكس الصورة السائدة في وسائل الإعلام الغربية من أن المسلمين حشد متآلف في طريقة معيشة وتفكير متطابقة. ويقول تيتفاينن: "أردتُ أن أظهر الواقع، حيث تتصادم وجهات نظر دينية وعملية على طرفي النقيض. كنت أريد أن يفهم القرّاء أنهم لا يمكن أن يقوموا بتصنيف المهاجرين أو المسلمين".

لكن تقديم صورة إنسانية عن المهاجر المسلم ليس هدف الرواية الوحيد، إذ تنشغل أكثر في إلقاء الضوء على الوضع الصعب الذي يواجهه ذلك اللاجئ في أوروبا، والآثار النفسية التي يمكن أن يخلفها ذلك الوضع عليه. فالرحلة الصعبة والمحفوفة بالمخاطر التي يخوضها في البحر، ثم محاولاته الدائمة للاختباء منذ بلوغه الشاطئ ورهبته الدائمة من ترحيله، غالبًا ما تعرضه للاكتئاب والقلق والاضطراب الجسدي، وربما تصيبه بالفصام، كما حدث لرشيد- بطل الرواية.

غير أن اجتهاد المؤلف الواضح لصياغة تلك الصورة الواقعية، يشوبه قليل من الميراث الاستشراقي، حيث يتعامل الشباب المغربي/العربي في الرواية مع فحولتهم باعتبارها الميزة الوحيدة التي تجعلهم متفوقين على الغرب: "اسكندنافي وتركي ومغربي يتباهون بثروات بلادانهم، الاسكندنافي يتباهى بالنساء، التركي يتباهى بالسجاد، لكن المغربي يتباهى بفحولته التي استعملها مع الاسكندنافيات فوق السجاد التركي". ولا تبدو تلك المزحة الواردة في حديث لإحدى شخصيات الرواية، عرضية، وإنما يبدو الأمر كما لو أنها القاعدة المتحكمة في عقلية غالبية المهاجرين العرب داخل الرواية. كذلك لا تفسر غيرة "رشيد" على زوجته، وشكَّه المبالغ في سلوكها وظنه الدائم بأنها ستخونه فور أن تتاح لها أي فرصة لذلك.

الأمر نفسه يظهر من خلال الرسوم. فكل فتاة جميلة –خصوصاً اللعوب- هي أقرب في صورتها لشخصية الأميرة "ياسمين" في قصة "علاء الدين" التي صممتها شركة ديزني، فيما تبدو العربيات الآخريات غير ذات ملامح واضحة.

على مستوى بصري آخر، استخدم تيتافاينن الألوان الباردة، في تصوير غالبية لوحات الرواية، فإضافة إلى ما تعكسه تلك الألوان من برودة فإنها تضفي عليها كآبة. وعلى عكس الألوان الساخنة التي تستخدم لإظهار التصميمات أو التكوينات في صورة أقرب إلى المشاهد، توحي الباردة بالوضع الهامشي للاجئي "الأيدي الخفية" في خريطة العالم. فلفظ "الحراقة" الذي يستخدمه المغاربة في الرواية –وفي الواقع- كمرادف للهجرة غير الشرعية، استخدم في الأصل لوصف الفعل الذي يقوم به المهاجر السري لدى وصوله أوروبا حيث يحرق الأوراق الثبوتية من جواز سفر وما شابه، حتى لا تتمكن سلطات الهجرة من طرده إلى بلد إقامته، فتضطر لإطلاق سراحه، وربما يكون في استخدام الألوان الباردة مفارقة للسخونة/الحرقة في قلوب الرجال على عائلاتهم الذي يضطرون للهجرة من أجل إعالتها.

تبدو رواية "الأيدي الخفية" بمثابة مطالبة بالنظر مرة أخرى، وبشكل أوسع، إلى حق الإنسان في أن يجد منزلًا يصون كرامته وأمنه، من دون حاجته إلى تفسير الأسباب التي تفقده ذلك الأمان. وبغض النظر عن المكان الذي يبتغيه لذلك البيت وموقعه من خريطة الكرة الأرضية، يقول تيتافاينن: "في اللغة الفنلندية هناك كلمة سيئة: العيش على طريقة اللاجئ، يتم استخدامها من قبل الأشخاص الذين يعتقدون أن الحرب أو الاضطهاد هي الأسباب الوحيدة الصالحة للهجرة. كما لو كان الفقر والجوع واليأس أعذارًا هينة".


(*)صدرت النسخة العربية من "الأيدي الخفية" عن دار صفصافة للنشر بالقاهرة، بترجمة للتونسية سمية الهذيلي.

و"فيلا تيتافاينن"، رسام ومؤلف فنلندي، ولد في هيلسنكي العام 1970، وتخرج كمهندس معماري العام 2000، لكنه تفرغ للكتابة والرسم. و"الأيدي الخفية" هي روايته الثالثة، وقد نالت جائزة أحسن رواية مصورة في فنلندا العام 2012.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها