الإثنين 2016/12/12

آخر تحديث: 12:14 (بيروت)

محمود أبوزيد.. التجربة التي غيّبت صاحبها

الإثنين 2016/12/12
محمود أبوزيد.. التجربة التي غيّبت صاحبها
increase حجم الخط decrease
لماذا يصعب تقييم تجربة كاتب ضعيف المستوى وهو على قيد الحياة؟ ليس حرجًا من وجوده –بالتأكيد- وإنما لعدم اكتمالها بالشكل الذي يمكن من تقديرها، ولا يُتمم الموت تجربة إبداعية، وإنما يأتي بمثابة إعلان عن انتهاء فرص ذلك الكاتب في أن يمر بتجربة ذاتية، ربما تفجر طاقاته الإبداعية التي لم يكن يعرفها لا هو ولا قارئه/مشاهده المفترض.

وربما يندهش القارئ من أن مؤلف أفلام "العار و"الكيف" و"جري والوحوش" و"البيضة والحجر"، مات بالأمس فقط، وأنه لم يرحل منذ 15 أو 20 سنة على الأقل، وليس في الأمر تقليل من منجز السيناريست محمود أبوزيد (1941- 2016)، الذي غيبه الموت منذ ساعات، وإنما توطئة للإشارة إلى ما مثلته تلك الأعمال من جودة غطت على حضور الكاتب نفسه في حياته، وعلى أعماله السابقة واللاحقة عليها.

بدأ أبوزيد مشواره الذي امتد لنحو 39 عامًا -على الرغم من قلة أعماله المقدرة بـ26 عملًا بين سينما ومسرح وتلفزيون- منشغلًا بما يطلبه السوق، فمع بداية السبعينات، حيث ظهرت أولى أفلامه، كانت قصصه تدور عن أحوال الشباب ومحاولاتهم للتحرر من القيود الأسرية، ثم اتجه –حسب السوق أيضًا- إلى كتابة أفلام العصابات وتجار المخدرات المليئة بالأحداث المستهلكة، قبل أن تأتي لحظته الاستثنائية مطلع الثمانينات، فينجز فيلمه الأول من أربعة هم الأهم في مساره الفني، وهو "العار" ليتبعه بعد ذلك بـ"الكيف" و"جري الوحوش" ثم "البيضة والحجر".

ويمكن اعتبار تلك الرباعية التجربة المفجرة لطاقات أبوزيد الإبداعية التي توارت خلف بدايته الضعيفة، وليست تلك الأفلام الأربعة نتاج تجربة ذاتية عاشها الكاتب نفسه، وإنما تجربة استخلصها من الوضع الذي آلت إليه الحياة في مصر بعد عصر الانفتاح، ما كون لديه وجهة نظر سلبية عن حال المجتمع المصري الذي تأثر اجتماعيًا بفعل سياسة الرئيس السادات، الأمر الذي خلف لديه الرغبة في تقويم ذلك المجتمع أخلاقيًا عن طريق ما اعتبره رسالة السينما. لكن يبدو أن تلك التجربة كانت أكبر من أن يتجاوزها، إذ حاول تكرارها في معظم أعماله اللاحقة بتنويعات مختلفة إلا أنها كلها باءت بالفشل الذي اختتمه بمسلسله التربوي الزاعق "العمة نور" في عام 2003، حتى أنه لما حاول تجاوزها بالعودة مرة أخرى للأفلام التجارية لم يحقق أي نجاح يذكر في فيلمه "بون سواريه" عام 2010، والذي كان أخر أعماله.

فعلى مدار 18 عامًا، في الفترة من 1992 إلى 2010، لم يفعل محمود أبوزيد غير تأكيد غيابه، بالرغم من لجوئه الى تقديم نصوصه في مجالات مختلفة كالمسرح والتلفزيون والإذاعة، حيث قدم مسرحيتين: حمري جمري وجوز ولوز، ومسلسلين أحدهما إذاعي: "العمة نور" و"سجن الزوجية"، وأربعة أفلام هي: "عتبة الستات" و"ديك البرابر" و"الأجندة الحمراء" و"بون سواريه". بل كانت المفارقة الأبرز في ذلك الإطار أن يقوم ابنه أحمد محمود أبوزيد، بإعادة معالجة فيلميه "العار" و"الكيف" دراميًا وتحويلهما إلى مسلسلين في حياة أبيه، وهي خطوة غالبًا ما يلجأ إليها الوريث لإعادة استثمار تركة من ورثه، وعلى الرغم من المستوى المتدني الذي بدا عليه مسلسل "الكيف" لم يتدخل أبوزيد لمنع ابنه من تدمير ميراثه، وسمح له بتقديم "العار" الذي لم يكن أفضل حالًا من سابقه.

تجربة فذة
لكن لماذا تفوقت الأفلام الأربعة على كل ما أنجزه محمود أبوزيد، وكيف يعيش عمل فني غارق إلى أذنيه في رسائله التوجيهية؟

جاءت الأفلام الأربعة: "العار" و"الكيف" و"جري والوحوش" و"البيضة والحجر"، من إخراج علي عبدالخالق، لكن ذلك لا يعني أن الفضل في جودتها عائد إليه، فما صنعه محمود أبوزيد ليس إلا درسًا فنيًا في الكتابة، فالسينارست الذي درس الإخراج في معهد السينما ثم اتجه لدراسة الفلسفة في كلية الآداب، استطاع أن يصيغ تاريخًا مستقلًا لكل شخصية من شخصيات أفلامه الأربعة، حمَّلها أبعادًا نفسية واجتماعية عميقة، استطاعت بأصالتها وتفردها تجاوز كل رسالة أخلاقية يضمها في الفيلم في أحداثه، أو حتى بعد انتهائه، حيث حرص "أبوزيد" على تضمين نهاية كل فيلم من أفلامه الثلاثة "العار والكيف وجري الوحوش" عبارة مباشرة، إما من القرآن أو الشعر، فجاءت عبارة النهاية في العار من سورة الشمس "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"، وجاءت عبارة "الكيف" من أحمد شوقي "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، وأما جري الوحوش فمن سورة البقرة "وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"، لكنه تخلى عن تلك العادة في فيلم "البيضة والحجر" ربما لأنه مل منها أو لأن الفيلم الذي دار الصراع فيه بين العلم والشعوذة كان لا بد أن تكون نهايته علمانية بتطبيق القانون وإلقاء القبض على بطل الفيلم.

عندما بدأت نهضة القصة في مصر على يد يحيى حقي ويوسف إدريس من بعده، فطن كلاهما إلى أهمية العامية المصرية كأداة للتعبير عن الواقع، فبذلا الكثير من الجهد لجمع الألفاظ المميزة لكل طائفة مهمشة من طوائف المجتمع المصري، لكن اللغة في حد ذاتها متطورة تتجاوز مفرداتها بنفسها، خاصة إذا ارتبطت الأخيرة بشيء متطور أو قابل للاندثار كالحرف، غير أن محمود أبوزيد كان من الذكاء بحيث استطاع أن يصنع في أفلامه الأربعة بيئة قادرة على الحفاظ على لغة أفرادها، وصنع لتلك اللغة تاريخًا مجتمعيًا ينتقل بصحبتها عبر الزمن، فلم يعد الشخص المنحل مجتمعيا –بتفسيره الأخلاقي- يتحدث كما كان يتحدث مزاجنجي في فيلم الكيف، إلا أن اللغة التي كان يتحدث بها جمال أبو العزم لاتزال قادرة على التواصل مع المشاهد رغم اختلاف الزمن.

يحلم أي مبدع بعمل واحد يخلد ذكراه بعد رحيله، وقد مني محمود أبو زيد بأربعة أعمال لا يمكن إغفالها أبدًا من تاريخ السينما العربية ككل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها