السبت 2016/12/10

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

أما وقد حظرتم فيروز.. هنا ردّ عمره 60 عاماً

السبت 2016/12/10
increase حجم الخط decrease
انتشر خبر منع بث أغاني فيروز في مجمّع الجامعة اللبنانيّة كالنار في الهشيم، وتبعه بيان من التعبئة التربويّة في "حزب الله" أعاد إلى الواجهة مسألة تحريم الغناء. في الواقع، تجاوز العالم العربي هذه المسألة منذ أكثر من قرن، وعاد إليها في زمننا مع عودة الإسلام المتشدّد وتمدّده في سائر الأوساط الاجتماعية بشكل لم يسبق له مثيل.


حضر الشيخ الأزهري مصطفى عبد الرازق واحدة من حفلات أم كلثوم الأولى، يوم كانت منشدة تنشد التواشيح الدينية وهي تعتمر العقال والكوفية، وكتب في وصفها في نهاية عام 1925: "كلما ذكرت الشيوخ ذكرت أم كلثوم أميرة الغناء في وادي النيل. فإنّ لها هي أيضا شيوخاً يحفّون بها في عمائمهم المرفوعة وأكمامهم المهفهفة. عن اليمين شيخان وعن اليسار شيخان، حول فتاة معتدلة القوام لا يُشتكى منها قصر ولا طول، تنظر بعينين فيهما شباب وذكاء، وفيهما نزوة الدعابة ودلال الحسناء، في وجه ليست تفاصيله كلها جميلة ولكن لجملته روعة الجمال، تحت ذلك العقال البدوي مكفكفاً على جبينها بطراز مذهّب". وصف الكاتب كيف تقف "أميرة الغناء" على الخشبة "زينة ساكنة، وتشدو بصوتها الحلو شدواً ليناً"، ودعاها إلى خلع العقال، وجاءت هذه الدعوة بصيغة سؤال: "أم كلثوم نعمة من نعم الدنيا، فما بالها تأبى إلا أن تتجلّى على الناس بمظهر الآخرة؟".

خلعت الصبية العقال سريعاً، وصعدت سلم المجد، وتربّعت على عرش الغناء. واستمع إليها الجمهور وهي تتلو آيات من القرآن في فيلم "سلامة" سنة 1945، ولم تثر هذه التلاوة حفيظة الشيوخ، فقبلها بزمن طويل، ظهر العديد من المقرئات، ويبدو أن هذا التقليد يعود إلى زمن أسرة محمد علي، كما روى محمود السعدني في كتابه "ألحان السماء" الصادر سنة 1958. بعد أم كلثوم، تكرّرت هذه التجربة مع "مطربة العواطف" ملَك في عيد الجلوس الملكي في 1947، ونشرت مجلة "الصباح" بهذه المنسبة صورة للفنانة "بعدما انتهت من تلاوة آي الذكر الحكيم". بعد ظهور كوكبة من المقرئات لمعن من خلال الإذاعة، ارتفعت الفتاوى القائلة بأن صوت المرأة عورة، فتوقفت المحطات عن بث هذه القراءات، فدعا نقيب القراء الشيخ أبو العنين شعيشع إلى عودة الأصوات النسائيّة التي تتلو القرآن، مذكّراً أن مصر عرفت قارئات القرآن منذ عقود من الزمن، وأن الإذاعة المصريّة اعتمدت عدداً منهنّ منذ منتصف الثلاثينات، لكن دعوته جوبهت بالرفض.


اشتهر الشيخ ابو العينين شعيشع بحبّه للفنون، وأدّى في عام 1946 دور طالب أزهري يقرأ القرآن في المسجد في فيلم  "النائب العام"، وفي العام التالي لعب في فيلم "ابن عنتر" دور فتي أعرابي ينجح في عقد الصلح بين قبيلته وقبيلة أخرى معادية لها، وذلك عند قراءته آيتين من القرآن الكريم. وفي عام 1955، ظهر في فيلم "في صحّتك" حيث قرأ القرآن في مأتم حبيبة البطل. تعلّم هذا الشيخ المقامات الموسيقية، ورأى أن القرآن والموسيقى لا ينفصلان، وكان يهوي العزف على العود، ويعزف عليه الأغاني التي يسمعها، و"خاصة أغنية ألجندول لعبد الوهاب"، كما صرّح في حديث صحفي. كذلك، كان الشيخ مصطفى اسماعيل من كبار عشاق الغناء، وكان مقرباً من كبار مطربي عصره، وظهر في لقطات فوتوغرافية مصغياً إلى زوجته وهي تعزف على البيانو أغنية ليلى مراد "أطلب عنيّ". وفي عام 1955، سألته مجلة "الإذاعة المصرية" من "أحب مطرب" إلى نفسه، فقال "كلّهم"، ومن "احبّ مطربة"، فقال: "كلّهن"، وعن "أحبّ أغنية"، فاختار "القلب والا العين"، وهي أغنية عاطفية من كلمات مأمون الشناوي وألحان محمود الشريف أدّتها سعاد محمد في فيلم "أنا وحدي" عام 1952.
في أيلول/ سبتمبر 1957، نشرت "الكواكب" تحقيقا جريئا أجراه جميل الباجوري حول الغناء والتجويد. في مقدّمة هذا التحقيق، كتب المحرّر: "الصفة المشتركة بين مرتّل القرآن الكريم ومرتّل الأغاني، هي الصوت الجميل. وصاحب هذه الموهبة يستطيع أن يتلوّن بها كيفما شاء، يستطيع أن يغني وأن يرتّل القرآن. لقد استمعت إلى أحد المقرئين المعروفين يغني أمامي أغنية عبد الوهاب القديمة: في البر لم فتكم في البحر فتوني، وتمنيت لحظتها لو أن هناك فرقة موسيقية تصاحبه في غنائه، وآلة تسجيل تسجّل ما غنّى". ثمّ أضاف: "ماذا يحدث لو أنك فتحت الراديو، فسمعت المذيع يقول: هنا القاهرة، عبد الحليم حافظ يرتل آيات بينات من القرآن الكريم، من سورة البقرة. هل تعترك الدهشة؟ لماذا؟ وأيضا ماذا يكون شعورك لو أنك سمعت المذيع بعد ذلك يقول: هنا القاهرة، ظلموه القلب الخالي ظلموه، من كلمات حسين السيد وألحان عبد الوهاب، وغناء الشيخ عبد الباسط عبد الصمد؟".

حمل جميل الباجوري هذه الأسئلة إلى المرشد العام لجمعيات الشبان المسلمين الأستاذ أحمد الشرباصي، فكان ردّه: "الغناء فن من الفنون الخطيرة الشأن، العميقة الأثر، وهو من الفنون التي يتوقف الرأي الديني فيها على موضوعها وطريقتها، فإذا كان موضوع الغناء نبيلاً كريماً فليس هناك أي مانع يمنع مرتّل القرآن من أي يغني هذا الغناء النبيل الرفيع. ليس هناك ما يمنع من سماعنا للشخص الواحد مرتلا ومغنيا، ليس هناك مثلا ما يمنع من أن أسمع مرتل القرآن يذكرني في الصباح بهدى الرحمن، ثم اسمعه في المساء وهو يرتل أغنية رفيعة نبيلة تثير أكرم العواطف وأنبل المشاعر في صدور المستمعين". ذكر أحمد الأستاذ الأزهري هنا ثلاث أغنيات يمكن أن يؤديها الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي أو الشيخ محمو الحصري، وهي "ألله أكبر فوق كيد المعتدي"، "دع سمائي فسمائي محرقة"، و"إلهي ليس لي إلاك عونا"، وكلّها من الأناشيد الوطنية التي راجت في هذه الحقبة. فسأله المحاور: "ألا يجوز لمرتل أن يغني أغاني الحب والهوى والغرام؟". فقال "علينا أن تقتصر فيما يغنيه المرتل على ما يتجاوب أو ما لا يتعارض مع هذه الأغراض الأساسية لترتيل القرآن".

بدوره، أجاب الشيخ عبد الباسط على هذه الأسئلة، فقال: أنا شخصيا لو تمرّنت وتعلمت الغناء في صغري، لكنت مطربا ناجحا، ولكنني تعلمت وحفظت القرآن لأكون مرتّلا، وأنا لا أنكر أنني في كثير من خلواتي أردّد بعض الأغنيات لمطربين أعجب بهم، كأغاني الموسيقار عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، والأغاني الدينية التي يرددها عباس البليدي ومحمد الكحلاوي، ثم اني من عشاق صوت أم كلثوم وخاصة في قصائدها الدينية. أمّا أن أخلع حالياً الجبة والعمة وأقف أمام فرقة موسقية لأغني "ظلموه القلب الخالي ظلموه"، فإنني لا أرتضي ذلك، ثم اني سأفشل فشلا ذريعا ما في ذلك من شك، فلعبد الحليم حافظ لونه، ولي لوني، وكلّ في صناعته، وأنا شخصيا مبسوط من صناعتي". بعد عبد الباسط عبد الصمد، تحدّث الشيخ مصطفى اسماعيل، فقال: "لا أتصور نفسي حاليا وأنا أقف أمام الميكروفون، وبدلاً من أن أرتّل القرآن، أغني لعبد الوهاب أو غيره، أغنيات دينية أو عاطفية أو وطنية، فأنني سأفشل، وسأفقد جمهوري. ان مهنتي أن أرتل القرآن، وليس من المعقول أن أتحوّل من مقرئ إلى مطرب حتّى لو فرشوا أمامي الطريق ذهبا وجواهرا. حقا أنه ليس من حرمانية في ذلك، ولكن الأمر يرجع إلى الذوق والاستعداد ثم التمرين".


على العكس، أكّد عبد الحليم حافظ  "ان عبد الباسط عبد الصمد لن يفشل إذا تحوّل من مقرئ إلى مغن، فهو صاحب صوت جميل، ولكن الأمر يحتاج إلى تمرين واعداد وصقل، ولو تم له كل ذلك فسينجح وسيجد له معجبين وعشاقا كما له الآن". تمنّى المطرب العاطفي أن تسمح له الإذاعة أن يرتل القرآن الكريم، وقال إن الكثيرين ممن يسمعونه وهو يرتّل القرآن يشهدون بصلاحيته. من جهته، رأى فريد الأطرش أن "تجويد القرآن نفسه يتطوّر"، وأن المقرئين باتوا يؤدّون بعض الآيات "بطريقة قريبة جدا من التلحين القديم، التلحين الشرقي الأصيل، والمقرئ كثيرا ما يحلو له وهو يرتّل القرآن أن يظهر جمال صوته، بنغمات أقرب إلى الغناء منها إلى التجويد، وعبد الباسط عبد الصمد، ما سمعه أحد وهو يرتّل القرآن بصوته العذب إلا وقال عنه: أنه يغني، هذه البحة التي في صوته، انما هي بحّة مطرب".

ختم فريد الأطرش حديثه مستطرداً: "لقد جمعتنا جلسات كثيرة مع مقرئين ومطربين، فغنّى المقرئون ورتّل المطربون، وكان النجاح حليفهم. انني من قبل طالبت بتلحين القرآن، وطالبت الإذاعة بان تسمح للمطربين بترتيل القرآن، وأنا اليوم لا أجد غضاضة في أن أطلب من الإذاعة أن تسمح للمقرئين بالغناء".

يعود هذا الكلام إلى ستين سنة خلت. فأين كنّا، وأين أصبحنا اليوم؟
  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها