الخميس 2016/12/01

آخر تحديث: 11:57 (بيروت)

حمدي أبو جليل.. المدني الذي يرتدي زياً بدوياً

الخميس 2016/12/01
حمدي أبو جليل.. المدني الذي يرتدي زياً بدوياً
يرى أبو جليل أن العرب "البدو" كالإبل، يرتحلون دائماً
increase حجم الخط decrease
يعاني الكاتب المصري حمدي أبو جليل، من استعصاء ما يسميه بـ"نبرة الكتابة"، ويلقي عليها اللوم في قلة عدد أعماله الأدبية المنشورة. تلك النبرة هي التي يوضحها بأنها "بساطة الكلام وانسيابيته ومرحه وقدرته على الإقناع"، إذ يبدو أن "لعنة البدوي قد أصابتني؛ أعاني الأمر نفسه بينما أحاول الكتابة عنه". فما يشغل أبو جليل، هو أن ينقل للقارئ ما يعتقد أن فيه وصف "حمدي" الذي يشبه "مدنياً يرتدي في الحياة زياً بدوياً". و"لكن كيف لهذا المعنى أن يصل دقيقاً إن كتبت في معرض ذلك الوصف أنه يحمل الصحراء خطوطاً على وجهه ونبرة في صوته كزعيم قبيلة زائلة". ليست الجملة رومانسية فحسب، بل قاصرة عن وصفه أيضاً.

رأيت حمدي أبو جليل، في العام 2009، خلال ندوة في مكتبة "بدرخان". لم تكن الأولى التي أقابله فيها، لكنها الأولى التي أراه مرتدياً زيه البدوي. ليس الجلباب الأبيض الكلاسيكي الذي لبسه هو المقصود، بل الهالة التي دخل بها المكتبة ضيفاً لمناقشة لإحدى الروايات، كغريب يألفه المكان، أو بشكل أدق –مستعيراً لازمته في الكلام- مثل غريب امتلك المكان. ثم رأيته منذ أيام مرتدياً الزي ذاته. وإن لبس هذه المرة قميصاً وبنطالاً، كان متأخراً عن موعد الندوة التي نظمتها الجامعة الأميركية لمناقشة كتابه "القاهرة شوارع وحكايات"، قبل أن يمارس هوايته في احتلال المكان، هو يعرف كيف يصنع ذلك، أو لنقل يحمله في جيناته، كأي بدوي مرتحل يعتبر أن الأرض كلها ملكه.

ينتمي حمدي أبو جليل، مواليد 1967، حسبما أوضح في حواره لـ"المدن"، إلى قبيلة بدوية تدعى "الرماح" جاءت إلى مصر قادمة من ليبيا إبان الحملة الفرنسية، وبدأت الاستيطان في عهد محمد علي، واستقرت في عهد ابنه سعيد "بعد مذبحة طالت أربعين من شيوخها، علقهم سعيد على المشانق على حافة الصحراء، ومن يومها استقروا وانتقلوا للأبد من البداوة والترحال للاستقرار، الى الفلاحة"... لكن حمدي أبو جُليل لم يستقر مثل قبيلته في الفيوم، وارتحل عنها إلى القاهرة في شبابه، وعلى خلاف أبناء المدينة الذين يظنون أنها طاردة لأهلها، يؤمن صاحب "طي الخيام"، أنها "أكثر المدن ترحيباً بالغريب"، ربما لأن "الناس في الغالب لا يرون، فهم يعيشون، الرؤية تستلزم أن تعتبرها غاية. ألا تفعل شيئاً سوى التحديق"، مثلما يقول في "القاهرة شوارع وحكايات". وقد مكنت تلك الرؤية أبو جليل أن يجد في العاصمة "مدينة مثالية للفنان، ما أن تحس في الإنسان التماعة فنية حتى تضعه فوق رأسها، بل تميزه عن أبنائها". "أنتمي لقبيلة بدوية ولكن على علاقة وطيدة بالقاهرة، والقاهرة بالنسبة إليها هي المكان المفرح المنير، وشاعرهم عندما يقول (مرادي ندردح ونزور بلاد الحرية والنور) فإنه يقصد القاهرة، وأنا جئت إليها أساسا للبحث عن عمل، طبعا هي مدينة صعبة وقابضة بالنسبة لأمثالي، ولكنها تحتضن الجميع في النهاية".

وعلى الرغم من ذلك، فلم يعش أبو جليل في أي من أحياء القاهرة المعروفة، وإنما "درت حولها من عين شمس في الشمال إلى حلون في الجنوب إلى المقطم في الشرق إلى العمرانية في الغرب. لم يكن ذلك مرتباً. بل دفعتني إليه ظروف الحياة، والأدق ظروف الفقر. ولكني أعتبر نفسي محظوظا في هذه الدورة، إنها مناسبة تماما لروائي قاهري". وبالفعل تستحوذ القاهرة على الجانب الأكبر من موضوعات كتب أبو جليل الأدبية (*) لكن أبو جليل يعتبر أن "كل كتاب نُشر لي كان في الأصل روايتي الأم عن البدو، وبعدما أشرع فيها أنحرف عنها وأنتج كتابا آخر، لذلك أعتبرني حتى الأن لم أكتب روايتي".

يستغرق حمدي أبو جُليل وقتاً طويلاً بين كل كتاب يصدره وآخر، إذ نشر خلال 19 عاماً خمسة كتب فقط. فهو يرى أن عنصر الوقت ليس مهما في كتابة رواية، وقد استغرق نحو ست سنوات للإعداد لروايته "الفاعل". كان يعد خرائط للشخصيات والأماكن، يكتب ويعيد الكتابة. ويبدو أنه حتى الآن لم يجد تلك النظرة/النبرة لصياغة "روايته" التي يطمح لكتابتها عن قبيلته في الفيوم ربما "استهوالها لو صح الوصف، إحساسي أنها الرواية التي لو لم أكتبها ستندثر للأبد، وربما أنني لم أصل للنبرة اللائقة بها بعد".

يرى أبو جليل أن العرب "البدو" كالإبل، يرتحلون دائماً، لكنه لا يترك مناسبة إلا وعبر فيها عن رغبته في إعادة تنقيح أعماله ونشرها مرة أخرى، ما يوحي بتضارب بين طبيعته البدوية التواقة للارتحال، ومكوثه في المكان "إعادة تنقيح الأعمال". ربما يكون ذلك من أثار المدينة عليه "أنا بدوي إذا وجدت مصدراً مدينياً خضعت له". غير أنه يوضح أن سبب ذلك يعود لأن "دائما لي ملاحظات وإضافات وحذوفات جوهرية على ما كتبت، لذلك أخاف أن أقرأ كتبي بعد نشرها لأني لو طاوعت نفسي سأكتبها مرة أخرى، وهذا ما أفقدني مجموعة كاملة، حذفتها حذفا من كتاباتي". فقد أصدر في العام 2010 كتاباً بعنوان "طي الخيام" وهو مختارات قصصية من مجموعتيه الأولى والثانية، واعتبره مجموعته القصصية الوحيدة بعدما حذف قصصاً كثيرة من كتاب "أسراب النمل" ونقح العديد من قصص مجموعته الثانية.

وليست القاهرة وحدها التي احتضنت أبو جليل، أو فتحت أمامه الرؤية لقراءة الحياة بشكل أوسع، وإنما أيضاً كُتّابها من الأدباء السابقين على جيله، والذين يصفهم بـ"أساتذتي"، وهم محمد مستجاب وإبراهيم أصلان وخيري شلبي، "الذين تولوني كاتبا وإنسانا، وأهم ما أسدوه لي فضلا عن الكتب والرعاية هو الاقتناع، الثقة، واكتشوا فيّ شيئا لم أكن أعرفه أنا شخصياً، هذا فضلا عن حالتهم، أقصد حيواتهم هي التي شجعت أو قل جرأت واحد مثلي على الكتابة، فالكتابة كانت قبلهم طبقة، روب، وبعدهم صارت لأبناء الشعب، كنت أتخيل أن الكاتب يجب أن يرتدي روباً في البيت وبدلة كاملة في الشارع، لحد ما شوفت مستجاب".

وقد مثّل محمد مستجاب، على وجه الخصوص، حالة متفردة في الأدب المصري، سواء في إنتاجه أو في حضوره الشخصي، وكانت الأسطورة سبيله للتعبير عن قريته الأم "ديروط الشريف" من محافظة أسيوط جنوبي مصر. غير ان أدب حمدي أبو جليل شديد الصلة بالواقع، كما يُظهر خلال حواراته سواء أكانت ودية، أو صحافية، خصاماً واضحاً مع الفانتازيا، وكأن هناك رغبة لديه، مثلاً، لمفارقة منجز أحد أساتذته. إلا أنه يوضح "لست ضد الفانتازيا أو حتى الجنون في الرواية والفن عموما، المهم أن يكون منطقيا. ماركيز جعل البنت تطير في مئة عام من العزلة ولكنه صنع منطقا أظهر ذلك الطيران واقعيا تماما. وبالنسبة لي أنا مدهوش في الواقع، واقعي أنا شخصياً، أراه أكثر غرابة من أي فانتازيا، ومشكلتي دائما أنني لم أصل إلى طريقة أو نبرة كتابية لنقله كما هو، حتى الصورة والكاميرا لا تستطيع نقل الواقع كما هو".

 (*) كتبه هي أسراب النمل، أشياء مطوية بعناية فائقة (فازت بجائزة الإبداع العربية سنة 2000)، لصوص متقاعدون والفاعل (فازت بجائزة نجيب محفوظ سنة 2008)، بالإضافة إلى كتابه اعن شوارع القاهرة "القاهرة شوارع حكايات" والذي صدرت منه ثلاث طبعات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها