السبت 2016/11/05

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

"تحت الظلّ" لباباك أنفاري.. وساوس الحرب وشياطين طهران

السبت 2016/11/05
"تحت الظلّ" لباباك أنفاري.. وساوس الحرب وشياطين طهران
يمزج أنفاري بين الرعب الذي تضخّه سلطة رجعيّة بين الناس، والرعب الذي تخلّفه الحرب في النفوس،
increase حجم الخط decrease
الحرب العراقيّة الإيرانيّة التي استمرّت ثماني سنوات (1980 - 1988) تشكّل خلفيّة زمنيّة يبني عليها الإيرانيّ باباك أنفاري فيلمه الجديد "تحت الظلّ" الذي تدور أحداثه في طهران التي كانت تعيش أجواء الحرب وتفاصيلها، بالإضافة إلى التقاط المتغيّرات والمحظورات والقيود التي كان النظام الجديد قد فرضها على الناس في مسعى لتكبيلهم بسياساته الشموليّة الرجعيّة، وإخراجهم من مسار التاريخ المعاصر ووضعهم في قوالب جامدة تناسب مزاعمه وسياساته التضليليّة الانتقاميّة. 

بطلة الفيلم؛ شيدا (نرجس رشيدي) اتهمت بالتخريب وإشاعة الفوضى بعد ما سمي بـ"الثورة الإسلامية" في إيران، تطرد من كلية الطب وتدخل في حالة من الشعور بالضيق والحصار، تعيش وطأة الحرب وفوضاها، تجد نفسها محاصرة مع ابنتها في طهران في غمرة اشتداد الحرب العراقية الإيرانية، ترصد جانباً من ممارسات السلطة الانقلابية وتدخلها السافر في حياة الناس.

تختصر شخصيّة شيدا مأساة المرأة الإيرانيّة في ظلّ النظام الذي رفع شعارات دينيّة إسلاميّة وقمع الحياة المدنيّة في البلاد، وأفسد التنوّع والثراء في تغوّله وتعكيره للأجواء وتسميمه لها بفرض قوانين جائرة لا تنتمي لروح العصر بصلة، تعيش محنة سوق زوجها إلى الجبهة وخطر فقده، ولاسيّما أنّ المعارك مستعرة هناك، وهو لا يملك من أمره شيئاً. وهي وإن كانت تعاني رهاب المكان وتعيش رعباً منقطع النظير مع ابنتها إلّا أنّها تحاول التشبّث بما بحياته وأسرتها وابنتها.

شيدا هي الطبيبة التي لم تستطع إكمال دراستها نتيجة سياسة الطرد والتهميش التي اتّبعها نظام الملالي للفتك بمناهضيه، تجد نفسها على هامش الحياة العلميّة والعمليّة معاً، فلا هي حقّقت طموحها وطموح والدتها الراحلة بإكمال دراسة الطبّ، ولا تمكّنت من مزاولة مهنتها المأمولة، ما زرع الشكّ لديها في نفسها وطاقاتها وقدراتها الطبّيّة، وأوقعها فريسة شكوكها بمن حولها، حتّى بزوجها الذي اتّهمته بالتهرّب من اتّخاذ مواقف جريئة، ومهادنته للسلطة القمعيّة وتفضيله سلامته الشخصيّة.

كلّ ما حولها يتحوّل إلى فخّ يوقع بها، تسقط قذيفة على البناية التي تسكنها، يسقط أحدهم ضحية رعبه وضغطه وضعف قلبه، وحين تتم الاستعانة بها يكون الأمر مقضياً، فتراها تلوم نفسها، وتعترف بأسى أنّها فاشلة، وأنها لم تتمكّن من إسعاف المريض الذي احتاج مساعدتها بعد أن حاولت إجراء تنفّس له، وكأنّها تقرّ بألم للسلطة بأنّها تستحقّ الطرد من كلّيّتها.

وهي الزوجة الحائرة الضائعة بين واجباتها الزوجية والأسريّة، تتردّد في تلبية طلب زوجها بالذهاب إلى بيت أهله والخروج من العاصمة المهدّدة بالقصف، ترفض وتكابر، وتصرّ على البقاء في بيتها، وكأنّه آخر حصن تبقّى لها في معركتها الحياتيّة الخاسرة.

كما أنّها الأمّ التي تقف عاجزة أمام مأساة ابنتها الصغيرة، تشاهد ابنتها وهي تعيش أجواء الحرب التي تلقي بظلالها المدمّرة على روحها، تقع الطفلة فريسة وساوس زرعها في عقلها أحد الأطفال المشاكسين، يحدّثها عن وجود الشياطين والأشباح الأرواح الشرّيرة التي تترصّدها لتفتك بها وتسرق أشياءها وألعابها، وتجد نفسها منساقة وراء تلك الخزعبلات التي تتخيّلها ابنتها، تعيشها كأنّها واقع حقيقيّ مرعب.


تجاهد شيدا للخروج من دائرة الوساوس التي تفترسها أيضاً، تتلبّسها خيالات ابنتها عن الشياطين والجنّ، تبحث عن أشياء كانت قد خبّأتها وأغلقت عليها فتراها لا تعثر عليها، تقتفي ظلال أشباح متخيّلة تعابثها، تفقد القدرة على النوم، يغرقها العنف من كلّ الجهات، وهي تحاول كسر الطوق الذي يثقل عليها تكون قد شارفت على السقوط في مستنقع الجنون.

يجسّد أنفاري التعنيف المخجل الذي تتعرّض له المرأة في ظلّ السلطة الرجعيّة، وذلك عبر مشهد يختصر فلسفة النظام الجديد المعبّأ بأفكار بالية يسعى لترويجها وتصديرها، يصوّر المشهد شيدا وهي تحمل طفلتها الصغيرة وتهرب من شقّتها في ليلة حرب، أصداء القذائف المرعبة تتحوّل إلى كوابيس تجثم على صدرها وتكاد تخنقها، تهرب بثياب عادية، لكنّ تلك الثياب تكون بماثبة جريمة تقترفها، إذ تصادفها دورية سيّارة، يعنّفها عناصر الدورية لخروجها بذاك الثوب الذي يصفونه بأنّه غير محتشم، ويكون الاتّهام المضمر أنّها تشارك بنشر الفتنة والرذيلة في مجتمع محافظ، ويتمّ سجنها عقاباً لها على ذلك، وفي السجن توضع عليها عباءة سوداء في إشارة إلى السواد الذي يغلّف بلداً برمّته وحجبه وقطعه عن ماضيه ومستقبله، ثمّ تدعى للاستابة عن فعلتها الموصوفة بالمنكرة والمشينة، ويعفى عنها بعد إذلالها وإهانتها.

تكون المفارقة المفجعة لها هي أنّ أفراد الدورية لم يسألوها عن أسباب ذعرها ولم يحاولوا مساعدتها والتخفيف من خوفها، ولا مساعدة طفلتها المرعوبة بدورها، بل كالوا لها التهم وبدؤوا بلومها، وحوّلوها من ضحيّة حرب ملعونة إلى مجرمة تسعى لنشر الفتن في مجتمع محافظ وتخدش الحياء بكشف مفاتنها.

تنجح شيدا في قيادة سيّارتها بعيداً عن طهران، تنقذ ابنتها من براثن الكوابيس والوساوس السوداء المفزعة التي سكنتها أيضاً، تنتشلها من قاع البؤس والعتمة لكنّها لا تستطيع الوصول إلى أيّ برّ أمان، بل تنظر خلفها بأسى وهي تقود سيّارتها، تتحسّر على ماضيها ومستقبلها ومستقبل ابنتها، ومصيرها ومصير أسرتها.

بالنسبة لشخصية الزوج الذي سِيق إلى الجبهة، يبقى في الجبهة في الوقت الذي تستمرّ رحى الحرب بالدوران وطحن الناس، يعيش مأساة المرء الماضي إلى حرب لا يؤمن بها، يشارك رغماً عنه في تفاصيلها، هو الطبيب الذي يفترض به مداواة الجرحى، يعجز عن ترميم حياته، وتدبير شؤون أسرته، يترك خلفه ابنته الصغيرة وزوجته الشابّة المرهقة من الضغوطات والمسؤوليّات ويرجو أن يكون ذهابه لفترة قصيرة.

يمزج أنفاري في فيلمه بين الرعب الذي تضخّه سلطة رجعيّة بين الناس، وقلبها ميزان القيم الاجتماعيّة، والرعب الذي تخلّفه الحرب في النفوس، وشراسة تلك المشاعر التي تضرب المرء في الصميم وتبقيه غريباً عن ذاته وواقعه، ولعنة البقاء تحت ظلّ الرعب الجاثم على الصدور.

___________

الفيلم إنتاج مشترك بين قطر والأردن والمملكة المتحدة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها