الأربعاء 2016/11/30

آخر تحديث: 11:55 (بيروت)

وحدة الأجساد في سينما روي أندرسن

الأربعاء 2016/11/30
increase حجم الخط decrease
في فيلمه "تجلس حمامة على غصنٍ وتفكِّر بالوجود"، الذي عرض ضمن فعاليّات أسبوع آرتي في سينما ميتروبولس، يختم المخرج السويدي روي أندرسون ثلاثيّة سينمائيّة بعنوان "ثلاثيّة العيش". والتي تضمّ أيضاً فيلمي "أنتم، العائشون"، الصادر في 2007، و"أغنية من الطابق الثاني"، الفيلم الذي أعاده العام 2000 إلى الإخراج السينمائي، بعد أكثر من عقدي غياب، حين هجر السينما لحساب العمل في مجال الدعاية التجاريّة. 

من خلال الثلاثيّة، يبني أندرسون نسخة غير واقعيّة لمدينة سويديّة تسكنها شخصيّات متخيّلة. مستخدمًا نمط البرلسك، يُسقِط أندرسن إحباطات الحياة على أكتاف شخصيّاته التعبة، جامعًا الهزل مع تراجيديا الإخفاق: حلّاقٌ يفرم تسريحة شعر رجل أعمال قبل موعدٍ هام، راقصة فلامنكو لا تستطيع رفع يدها عن راقصٍ يرفض عناقها.


دخل البرلسك (لفظ فرنسي) من المسرح إلى السينما، منذ بداياتها حين عرفته في أفلام شارلي شابلن وباستر كيتون الصامتة. هو منحى في الأسلوب الإخراجي، يرتكز على تنافرٌ تهريجي بين أجساد الشخصيات وأفعالها، يؤدّي إلى التهكم على نوايا تلك الشخصيات من خلال فشل جسماني يحاكي العبث. اهتم به أندرسن من خلال عمله في الدعايات المتلفزة، حين كان يبحث عن أسلوبٍ يتعامل فيه مع ورطة التسويق لمنتاجات استهلاكيّة وفي محاولته لأنسنة المنتجات.

ينسب روي أندرسن لجوءه إلى العمل الدعائي أوّلًا إلى فشل فيلمه المتخيّل الثاني "غيلياب" العام 1975، ثمّ إلى طلاقه مع ما يسمّيه أسلوب الواقعيّة الأوروبيّة. في مجال الدعاية التجاريّة تواجه أندرسن اليساري سياسيًّا مع معضلة أخلاقيّة: كيفيّة إظهار المنتج من دون التقليل من قيمة الإنسان الذي يستهلكها. فإذا به يرى تضخيم الحاجة للمنتج حتّى العبث، طريقة في وضع الإنسان محور دعاياته قبل المنتج. بين الهزل والعبث، وقع أندرسن على البرلسك وخلق في دعاياته واقعًا موازيًا لعالمنا، تعيش فيه الشخصيّات حالات مضخّمة من الحاجة والرغبة في اقتناء المنتجات يؤدّي بها، إلى الوقوع في إخفاقات هزليّة تروِّض الإستهلاك من خلال الفكاهة، تتوزّع فيه حصص الأهميّة السرديّة بين الشخصيات والمنتج بشكل ديموقراطيّ من دون طغيان الإستهلاك.

 
تعيش كل شخصيّات دعايات أندرسن، داخل لقطات واسعة منفردة بلا توليف، برغم اختلاف المنتج في عالمٍ موحّد. تجمعهم تشكيليّة تصوير في إطارات، دائمًا تتشابه داخل ديكورات، غالبًا ما تتكرّر، وإضاءة منتشرة بخفّة كاشفةً على كلّ ما هو مرئي. واقعٌ موازٍ استطاع به أندرسن تخطّي الواقعيّة المهترئة في سينما الواقعيّة الإجتماعيّة، كما التزييف المبتسم السخيف في الدعاية التقليديّة ليُصبِح من قِلّة المؤلِّفين في الدعاية.

عاد أندرسن إلى السينما العام 2000، في فيلمه "أغنية من الطابق الثاني"، الناقد للحالة الإنسانيّة المعاصرة، ليبدأ به "ثلاثيّة العيش". لكنّ فيلمه لم ينتقد الواقع الحياتيّ الذي يعيشه المجتمع السويديّ، بل جعل سينماه نسخة برلسكيّة لعالم أندرسن الدعائي. فكان الفيلم تضخيما للتضخيم: لقطات أكثر وسعةٍ داخل إضاءةٌ أكثر نصاعةً تنتشر لتفضح الديكور والشخصيّات "بلا رحمة" على حدّ قول المخرج.

في "ثلاثيّة العيش"، يستخدم أندرسن تشكيليّة مشابهة لكن مضخّمة للتي في دعاياته، كما يوظِّف الممثلين غير المحترفين أنفسهم. فيبدو لنا عالم أندرسن السينمائي، في الثلاثيّة، مقارنةً بعالمه الدعائي، مثل فعل المبالغة في سكب مواد التنظيف على قطعة قماش حتّى تلفِها، فالبرلسك أكثر لاعقلانيّة حتى الهذيان، والإخفاق أثقل وطأةً حتّى التراجيديا. كما لو أنّ أندرسن يخاطب عالمه الدعائي أكثر من الواقع المعاصر.

إضافةً إلى البرلسك، يلجأ المخرج إلى تاريخ لوحات الرسم وخاصةً الرسّام بيتر بروغل الأكبر لخلق لوحات حيّة تُخفِقُ فيها شخصيّات عادةً، ما تبدو لنا ميتة بسبب قلّة القدرة على الحراك والإضاءة الباردة كالمشرحة والماكياج المبالغ، الذي يذكِّر بتبريج الأموات في عزائهم. يُشير روي أندرسن إلى تاريخ الرسم في حاجته إلى تركيب مشهديّة تظهر واقعًا صريحًا وتجريديًّا في آن. يرى في اللقاء بين بقايا واضحة من الواقع وجمود التجريد حالةً تشبه الحلم.

في مقدمة كتابه "إنسان السينما العادي"، يقول المفكّر الفرنسي جان لويس شيفير عن البرلسك في السينما: "أليس هو تضخيمٌ لتفصيل واحد في حياتنا؟ أو حياةً كاملة لشيء قد يكون في استطاعتنا معرفته وهو وحيد في العالم (وحيدًا مثل ديمومة حياة ثنية على بشرة، قبعة سخيفة على نفس الرأس أو قدمًا مجفصنة أبدًا): هو تفكيرٌ وإدراك للحركة التي تُصيب جسدًا فتُحدِّدُ استعراضه. لهذا يخيفنا البرلسك: تلك الأجساد مذنبة في المسبق أكثر منها خرقاء، وهي ليست سوى إرجاء صغير لحركة بانتظار الجحيم". البرلسك كوحدة أجساد بانتظار الجحيم والتجريد كاللقاء مع الحلم.

أجساد عالم أندرسن الدعائي تحاول وحيدةً تجنّب جحيم الإستهلاك، لكنّها تخفق دائمًا أمام شعار المنتج في خِتام كلّ دعاية. أمَّا أجساد سينماه، فهي هائمة في الجحيم بانتظار الخروج منه والعودة إلى حلم أندرسن بلقاء سماء بروغيل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها