الثلاثاء 2016/11/29

آخر تحديث: 12:01 (بيروت)

حفلة جديدة على دم نجيب محفوظ

الثلاثاء 2016/11/29
حفلة جديدة على دم نجيب محفوظ
نائب مصري: "السكّرية، وقصر الشوق، فيهما خدش حياء، ومحفوط يستحق العقاب لكن محدش وقتها حرّك دعوى جنائية"
increase حجم الخط decrease
1
"الواقع فشخ الخيال"، عبارة كانت ذات يوم قريب فريدة على اللغة، أصبحت الكليشيه والله. صارت كلاسيكية. وربما، رغم غرابتها، باتت محدودة القدرة على التعبير عما نعيشه من واقع عجائبي.

نجيب محفوظ ثانية، أو قل: للمرة العاشرة!
أغلقتُ "فايسبوك" لساعتيّن وفتحته، لأجد الأصدقاء وقد نفضوا عنهم الاهتمام بفيلم "العساكر" الذي بثّته قناة الجزيرة، وتلقاه الجميع بين غاضب وبين موافق على الفكرة لكنه يرى الفيلم سطحيًا، نفضوا عنهم أمر الفيلم الذي كادت حواف شاشة الكومبيوتر أن تتآكل من شدة الاهتمام به في صفحات التواصل، لينشغلوا بأمر آخر. الجميع يسخر من تصريح نائب برلماني تحدث عن وجوب معاقبة نجيب محفوظ بتهمة خدش الحياء!

انطلقت التعليقات ساخرة. البعض يتحدث عن ضرورة ضبط وإحضار محفوظ من قبره لمحاكمته، وآخر يسأل: "هو في أي قسم شرطة الآن؟"، أو يطالب المثقفين بإصدار بيان للتضامن معه.

2
الحكاية أن أحد نواب البرلمان المصري، قال في جلسة: "لو كان نجيب محفوظ بيننا الآن، لتمت محاكمته، لأن رواياته تحتوي على عبارات خادشة للحياء". أطلق النائب عبارته خلال اجتماع لجنة الشؤون التشريعية في مجلس النواب، لمناقشة تعديل المواد الخاصة بالنشر في قانون العقوبات، وحذف عقوبة خدش الحياء.

الأصدقاء في الجماعة الثقافية توقفوا عند هذا التصريح. غير أن الجلسة، عمومًا، فيها من المُدهشات ما يستحق التوقف عنده. وهنا نظرة إلى أفكار بعض نواب البرلمان المصري، وطريقة إدارة الحوار في ما بينهم، كما نقلتها مواقع إخبارية:

نائب رافض للتعديلات: "ستعطي الحق للمرأة أن تنشر صورها عارية"، ويكمل: "إباحة خدش الحياء يتيح الفرصة لتصوير أي عمل فني بزعم أنه إبداع".

نائب مؤيد للتعديلات: "كلامك يعني أن أعمال نجيب محفوظ كلها خادشه للحياء".

نائب رافض: "هل يعني الإبداع أن أقوم بتصوير حالة جِماع كامل على الشاشة؟".

نائب مؤيد: "يعني أن روايتَي قصر الشوق والسكرية فيهما خدش حياء؟".

نائب رافض: "أيوه، السكرية وقصر الشوق فيهما خدش حياء، ونجيب محفوط يستحق العقاب لكن محدش وقتها حرّك دعوى جنائية".

نائبـ(ة) أخرى: "يا نهار أسود، هيودونا فى داهية".

بعد ساعتين أو ثلاث من انتهاء الجلسة، راجع النائب الرقيب نفسه، فقال لـ"العربية نت" إنه لم يكن يقصد الروايات في حد ذاتها، بل "الأفلام السينمائية التي جسدت هذه الروايات. فقد تضمنت مشاهد خادشة ومخلة وفاضحة لا يجوز أن تدخل المنازل وتشاهدها الأسر المصرية". وأضاف أنه يكنّ كل تقدير واحترام للأديب العالمي، موضحًا أن ما استفزه هو حرص بعض النواب على عدم معاقبة من يقدمون العري والمشاهد الفاضحة بحجة حرية الإبداع، متسائلاً: "أين حرية الإبداع في مشاهد غرف النوم؟".

هؤلاء نوّاب انتخبهم الشعب. وهؤلاء من تلجأ الحكومة إليهم عندما تريد تمرير قانون يخدّم على رغباتها، في كل المجالات. نواب بالتأكيد لم يقرأوا روايات محفوظ ولا غيره، ولا يعيرون انتباهًا لسنوات قضاها يعاني آثار طعنة سكين، بيد رسول لجماعة يأكل أعضاء البرلمان ويشربون يوميًا على "نصباية" محاربتها، مطالبين إيانا أن نغض البصر عن كل مساوئ المسؤول، بهدف أننا نعيش زمن الحرب على الإرهاب.

3
قبل حوالي 48 ساعة من جلسة النواب وما أحدثته من جدل، انتشرت صورة الروائي والصحافي المصري أحمد ناجي، خارجًا من قاعة المحكمة، في زي السجن، وفي يديه "الكلبشات"، بعد رفض القضاء استشكالًا ثالثًا يهدف إلى وقف تنفيذ الحكم بحبسه بتهمة خدش الحياء العام. كان أملًا اخيرًا، ليس في الانتصار لحرية التعبير، لكن في أن يكتفي القضاة ودولتهم بنحو 300 يوم قضاها ناجي في السجن، وكفى المؤمنين شرّ القتال.

بالمناسبة، صورة ناجي الموجعة، وخبر رفض القضاء لاستشكاله، لم يجدا الاهتمام المتوقع في صفحات السوشال ميديا. وذلك، في تصوري، ليس دليلًا على عدم الاهتمام، هو فقط اعتياد الهزيمة، وشعور بات مُستأنسًا، بقلة الحيلة.

4
"السخرية، هي الملاذ الأخير لشعب متواضع وبسيط"، يقول دوستويفسكي.
الأصدقاء أصبحوا جاهزين تمامًا لتلقي القضية تلو الأخرى، والتسابق في ما بينهم على إطلاق "الإيفيه" الأعلى والأسرع. الأمر مستحيل أن يكون بهذه البساطة، بساطة تصريح مجنون لنائب برلماني معتوه. نعم، الأمر ليس بسيطًا، ولكن بأي منطق يستطيع المرء أن يعالج الأمور في عصر الجنون؟ مناقشة أي شيء بجدية في ما نعيش من أجواء يُعد عبثًا رسميًا.
أنا أعذر الأصدقاء. لا أعرف، حتى، ما فائدة الكتابة حول ما يحدث. ربما تنقذك مشاركة آخرين في بعض الكلام، من الجنون، أو من الذهاب للبحث عن أقرب موعد لانطلاق سفينة فضاء، آملًا في وجود مقعد خال.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها