الثلاثاء 2016/11/22

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

"مابعد الحقيقة": تجدّد العقلانية بضدّها!

الثلاثاء 2016/11/22
"مابعد الحقيقة": تجدّد العقلانية بضدّها!
أبراج ترامب لا توحي بمفارقة الحداثة، بل تدفع إلى التفكير في رأي هابرماس في "ما بعد" الحداثة
increase حجم الخط decrease
يصلح تعبير "ما بعد الحقيقة" للتفكير في تجددّ مشروع العقلانية، عبر نقدٍ لتحوّلها "عبادة" ماورائيّة، ومُطالَبَةٍ بتعدّد الإنساني فيها. 


ماذا لو جرّبنا اختيار يورغان هابرماس نقطة انطلاق للنقاش عن اختيار مصطلح "ما بعد الحقيقة" Post Truth من قِبَل "قواميس أوكسفورد" للفوز بلقب "كلمة العام 2016"؟ لماذا اختيار هابرماس لـ"مواجهة" اختيار "ما بعد الحقيقة"؟ ثمة سببان أساسيّان: أولهما أن هابرماس جادل كثيراً مع التيار الفكري الواسع الذي عُرِفَ بإسم "ما بعد الحداثة"، وهو من أشهر من التصقت به صفة الـ"ما بعد" منذ منتصف القرن العشرين تقريباً.

ويتمثّل السبّب الثاني في ظهور شبه توافق في الإعلام الغربي، وهو المعني أساساً بذلك الأمر، على أن اختيار مصطلح "ما بعد الحقيقة" يتوافق مع صعود مصطلح الـ"ما بعد" في الأزمنة المعاصرة لوصف ذائقة عبّرت عنها في العام 2016، أشياء مثل "بريكست" [Brexit أو خيار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي]، و... فوز "الشعبوي الجديد" دونالد ترامب بالرئاسة في الولايات المتحدة.

أبراج ترامب و"الحداثة الفائضة"
على السطح، تبدو ظاهرتا "بريكست" وترامب، خروجاً على عقلانية الحداثة ومشروعها المستمر منذ قرون، بادعاء امتلاكه ناصية الحقيقة، وخضوعاً لذائقة مثقلة بالمشاعر والأهواء والأحاسيس البدائيّة وما يشبهها، على غرار العرقيّة والعنصريّة والتفاخرات الدينيّة وغيرها. 
ماذا لو تحدّينا ذلك "السطحي"؟ لنبدأ من ترامب، هل هو حقاً خروج على الحداثة، وهل هو عودة إلى "ما قبل الحداثة"؟ أم شيء آخر؟ لنحاول الإجابة انطلاقاً من تأمّل... أبراج ترامب.

تتَّبِع تلك الأبنية النمط نفسه في تكرار ميكانيكي رتيب، لا تخفى صلته بالتفكير الميكانيكي الصارم الذي تُعتبر الرياضيات شكله العقلي الأوضح. وتتّبع أبراج ترامب في نمطها ما ساد في العمارة الغربيّة التي رافقت الحداثة وعمارة مدنها، خصوصاً منذ المهندس الفرنسي الشهير لوكوربوزيّه (اسمه شارلز إدوارد جانريت، وتوفي العام 1965)، خصوصاً لجهة مزيج الاسمنت والزجاج والمربعات والمستطيلات المنفصلة والمتواصلة في واجهاتها. وتتميّز أيضاً بلمسة الذهب في لونها الخارجي مع أبّهة في دواخلها، ما يذكّر بعصر الـ"باروك" الكلاسيكي، وهو مرجع الحداثة في العمارة أيضاً.

لا شيء في أبراج ترامب يوحي فعليّاً بمفارقة الحداثة، بل بالأحرى تدفع إلى التفكير في رأي هابرماس الذي رأى أن "ما بعد" الحداثة ليست سوى استمرار وتطوير تاريخي يتحدّث عن آليات الحداثة نفسها، بل وصفها أحياناً بأنها حداثة فائضة.

ويحمل وصف ترامب بالشعبوي، تلك المخادعة عينها، إلى حدّ كبير. ربما يسهل تشبيهها بالشعبوية التي حملت هتلر وموسوليني وفرانكو إلى الحكم، لكنها مختلفة أيضاً، خصوصاً في علاقتها مع الحداثة وما بعدها باعتبارها تجديداً للحداثة. إذ وُصِفَت النازية وأشباهها من "الشعبويات" أيضاً بأنها "عقلانية متوحشة"، بمعنى صرامتها في النهج، وإدّعائها امتلاك الحقيقة على نحو مطلق. عمَّ نتحدث بالضبط؟ لننظر إلى شعار النازية الـ"سوازتيكا" الشهيرة: إنّها صليب معكوف، أي أنها صليب جرى التمرّد عليها بقسوة لوت أطرافه، لكن الأهم هو أنها حلّت رمزيّاً محله، أقله وفق مقاربة العنف والرمزيّة عند بيار بورديو مثلاً. إذاً، استمدت النازية خصوصيّتها من اكتساح "شعبوي" للعقلانية "المتوحشة"، بمعنى أنها تدّعي بتفاخر حلولها ديناً مهيمناً على الإنسان ومساراته ومصائره. ومن المستطاع قول شيء قريب من ذلك، عن الشيوعيّة الستالينية (والماوية وما إليهما)، مع شيء كثير من الفوارق التي تحتاج نقاشاً منفصلاً.

إذاً، النقد العميق فعليّاً للحداثة ينصبّ على نقد تحوّلها ديناً بديلاً، ونقد أن تتحوّل عقيدة ميتافيزيقيّة مكرّسة لـ"إله" جديد، هو العقل الإنساني المدّعي امتلاك الحقيقة والمعرفة بصورة تلامس حدّ المُطلَق. من المستطاع تقصّي خيوط نسيج ذلك النقد العميق (بل ربما الوحيد فعليّاً)، منذ فريدريك نيتشه وكتابه "تحطيم الأوثان". لكن لا مناص من التوقف عند مارتن هيدغر. استند نقد هيدغر للحداثة ومشروع العقلانية الإنساني (بل حتى عمق المشروع العقلي الإنساني منذ أرسطو) إلى ذلك الأمر أساساً: رفض أن تتحوّل العقلانيّة ميتافيزيقيا إنسانيّة بديلة مع التشديد على أن الحداثة هي أصلاً تمرّد وخروج عن الميتافيزيقا الدينيّة، بداية من ميثيولوجيا الإغريق بأنواعها، ووصولاً إلى الديانات بأشكالها كافة.

مع إخراج الحداثة من "أسر" محاولة تحوّلها ميتافيزيقا (خصوصاً على يد ديكارت ومنهجية الرياضيات الصارمة، وكارل ماركس وحتمية التاريخ الخاضع لقوانين المادية الدياليكتيكيّة كانصياع القدر لإله)، تنفكّ طلاسم العلاقة بين الحداثة وما بعدها، وكذلك بين الشعبويّة والذائقات المعاصرة المستندة إلى الأهواء والميول والنزعات البدتئية والانتماءات العرقية والعنصرية. ويصبح ترامب و"بريكست" بالأحرى أشكالاً معاصرة من الحداثة المتحرّرة من إدعاءات ترميها إلى صورة العبادة البديلة. بقول آخر، يكف الإدعاء عن كون العقل مساوياً للمعرفة، بل تكون الحقيقة مكوّنة من العقل الإنساني المتحرّر من الميتافيزيقا، والمتبني للأبعاد الأخرى للإنسان.

(هناك بين "ما بعد الحداثيين" العرب من يروق له نقد الحداثة عبر رفض أن تكون عقيدة دينيّة، لكنه يغمض عينه عن أن "ما بعد الحداثة" تحتفظ بالشق المتعلّق بالتحرّر من آثار ميتافيزيقا الأديان).

"بريكست" ليس خروجاً عن العقلانية
راج كثيراً أن خيار "بريكست" مثّل تحدّياً لخيار نهضت به نُخَب حداثيّة في بريطانيا مستندة في قيمها إلى العقلانية الأوروبيّة، وانحيازاً إلى مشاعر عامة وعواطف منتشرة بين جموع واسع من دون تبريرات عقلانيّة صارمة ولا موازنات منطقيّة دقيقة. ولم تجد وسائل الإعلام العام في بريطانيا التي تستند إلى الإحصاءات الرياضيّة الصارمة الدقّة والمنهجيّة، سبيلاً للالتقاط تلك المشاعر، بسبب من خروجها عن "المنطق" الذي تفترضه تلك الاحصاءات الرياضيّة. ولعله مفيد تذكّر أن المنطق العقلاني تساوى لأوقات طويلة مع المنهج الديكارتي. وينسب ذلك المنهج إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي أرسى المنطق الفلسفي والثقافي برمّته على توازيها مع علوم الرياضيات وأساليبها الدقيقة وترابطاتها الصارمة للعلاقة بين المقدمات والأسباب والنتائج، بل جعل الرياضيات مرجعاً حصريّاً لطريقة تفكير العقل الإنساني بالظواهر كافة.

وفي "بريكست"، هجرت ذائقة الجمهور الواسع، عقلانية خيار النخب بالاستمرار في الاتحاد الأوروبي، وكذلك هجرت أصواتها المعادلات الرياضيّة للاحصاءات في استطلاعات الرأي. بقول آخر، أعطى الـ"بريكست" مثلاً واضحاً عن كون عقلانية الحداثة، لم تعد أداة صالحة للتفكير في المجتمعات المعاصرة.

وفي الخيط الذي يربط بين ترامب و"بريكست"، يجدر القول بأن نقد الحداثة برفض تحوّلها ميتافيزيقا بديلة، يتضمّن أيضاً القبول بالبُعد غير العقلاني وغير المنطقي للإنساني. ويعني ذلك قبول الإنسان بمعناه الواسع، وعدم قصره على العقل كما يشي الـ"كوجيتو" الديكارتي الشهير (أنا أفكر، إذاً أنا موجود). فإضافة إلى العقل المفكر، يحتمل الإنساني الغامض والإلهي والروحي والشهواني والمغرم والمشغوف والمفتون والأهوائي وأعمال الحدس والتباسات النفس وغيرها. لا تكون الحداثة ميتافيزيقا، بل يتجدد عقلها وعقلانيتها بالأبعاد الاخرى للإنسان.

ألم تكن "العقلانية المتوحشة" حذرة دوماً من سيغموند فرويد وكارل يونغ وفيلهالم رايش وهربرت ماركوز، وهم من أرتادوا بالعقل مجاهل الغامض والروحاني والنفسي في الإنسان؟ ألم يترافق تيار ما بعد الحداثة، مع أعمال اهتمت بتلك الجوانب عينها، كاهتمام ميشال فوكو بالجنون، وكلود ليفي شتراوس بنظام الهدية والمآكل والعادات عند القبائل البدائية، ورولان بارت بالموضة والمضمر، وبيار بورديو بالرمزي وغيرها؟ الأرجح أن الخيط الذي يربط تلك الأشياء وغيرها هو النقد المزدوج للحداثة، رفض تحوّلها ديناً ميتافيزيقياً، وقبول الأبعاد غير العقلية عند الإنسان كجزء من مشروع عقلانية إنساني متمرّد على الميتافيزيقا الدينيّة. وبوضوح، يلقي ذلك الخيط نفسه ضوءاً على أبعاد متنوّعة في اختيار "ما بعد الحقيقة" كلمة للعام 2016.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها