الخميس 2016/11/17

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

"اتجاه المرج": الروائي صحافياً.. رغم التحذيرات!

الخميس 2016/11/17
"اتجاه المرج": الروائي صحافياً.. رغم التحذيرات!
علي سيد يجتهد في صياغة روايته في شكلها الأقرب لبناء القصة الصحفية
increase حجم الخط decrease
الرواية بين فنون الكتابة الأكرم. ليس من الصعب سبك مصطلح مدرسي/رسمي لوصف القالب الروائي من حيث استيعابه لباقي فنون الكتابة من شعر ونثر، لكن الرواية تمنح قالبها ليتسع لغيره من الفنون -بكرم - كما تتسع الحياة للموت؛ لا تناسب القوالب الجامدة وصفها وإنما تعرفها دلائل الحياة ولغتها، وهذا ما يحاول الروائي علي سيد علي فعله في روايته الأحدث "اتجاه المرج".

الروائي صحافيًا.. الرواية صحيفة
غالبًا ما يُحذر كل روائي يعمل في الصحافة مما قد تمثله تلك الوظيفة من خطر على فنه، يحذرونه من لغتها وأدائها الضاغط على الحياة، لكن الكاتب علي سيد"، لا كتفي بالاستهانة بتلك التحذيرات، وإنما يحاول -من خلال روايته- الإثبات بأن البناء الصحافي يمكن أن يكون جماليًا بحيث يتسع له القالب الروائي.

ترصد "اتجاه المرج"، لحياة "عادل" الذي يعمل في رفع المقالات على موقع الكتروني "أبلودر Uploader" في جريدة تدعى "الوطن اليوم"، ويتم تكليفه بالسفر إلى تركيا لكتابة تقرير عن حياة "الإخوان" هناك، اعتمادًا على أن شقيقه كان على صلة بالإخوان وبات من اللاجئين إلى هناك. لكن عادل يسافر إلى تركيا ويقضي أيامه السبع فيها منفقًا أموال الجريدة كلها على حياة الليل والسياحة من دون أن ينجز عمله، ويعود ليجد رئيس التحرير الذي كلفه بالمهمة الصحافية قد أقيل من منصبه، فيجدها فرصة للتهرب من تقديم أي مادة تحريرية عن رحلته. لكنه يفاجأ بعد خمسة شهور على عودته، بأنه حُوّل إلى تحقيق إداري لأنه متهم بتبديد أموال الجريدة والتقاعس عن إنجاز مهمته، ثم يكتشف من خلال التحقيق أن لديه فرصة للنجاة، فقط إذا قدم مادة صحافية عن حياة "الإخوان" في تركيا، لكن المهلة المتاحة أمامه لذلك هي يوم واحد فقط.

وعبر تلك الأزمة التي يمر بها بطل الرواية، يصنع علي سيد روايته، التي لا تترصد لحياة اللاجئين في تركيا فحسب، وإنما كذلك للحالة المتردية التي باتت تعانيها صناعة الصحافة في مصر، فالصحافة المصرية لا تعاني فقط انعدام حرية تبادل المعلومات وهيمنة النظام السياسي والرأسمالي، وإنما تعاني أيضًا التردي على مستوى كفاءة الصحافي نفسه والمنظومة المهنية التي يعمل وفقها.

فالكتابة الصحافية في مصر لاتزال أسيرة الأسلوب الكلاسيكي في أفضل تجلياتها الفنية، فتكليف الصحافي بكتابة قصة صحافية عن حدث ما، يعني أنه سيسلك أسلوبًا عاطفيًا حجريًا –ذا بواعث أخلاقية- لحث القارئ –وفق ظنه- على التعاطف مع عناصر القصة التي يرصدها، فيصبح ذلك الهدف التعاطفي مبتغاه، ابتداءً من المقدمة المسرحية التي يستهل بها تقريره إلى الرسالة الأخلاقية التي يبثها عبر المصادر الرسمية التي يستعين بها لتزيين مادته. أما البُعد الإنساني/البانورامي عن الحياة، والذي يفترض أن يرتجى من تلك المادة، فيكون غائبًا عن أولوياته، هذا بالإضافة إلى صرعة الـ"Trend" التي أصبحت تستحوذ على اهتمام صناع الصحافة بعد الثورة التي أحدثتها مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا ما يواجهه "عادل" في صراعه مع ذاكرته وصحيفته خلال يومه المحدد لإنجاز قصته الصحافية. فحين يجلس "لمراجعة المادة المصورة التي جمعها خلال رحلته لحث مخيلته على إفراز الموضوعات اللازمة لإنجاز عمله، يكتشف أنه جمع قصصًا كثيرة عن مظاهر حياة اللاجئين سواء كانوا سوريين أو ليبيين أو حتى هاربين سياسيين كالإخوان. لكنها قصص لا تناسب في بعدها الإنساني الواضح، ما تبتغيه جريدته من وراء إرسال صحافي ليرصد "الحياة السرية للإخوان" في تركيا. قابل "عادل" عازفاً تركيا يحب أم كلثوم وفيروز وعبدالوهاب ويعزف أغانيهم، وقوّادًا عراقيًا، ومقاتلين ليبيين وجرحى حرب يتوجسون من العربي القريب أكثر من الأوروبي الغريب عنهم. وزار حي الدعارة الذي أصبح ممتلئًا بالعرب بمثل امتلائه بالجنسيات الأخرى. وعلى الرغم من إعلان عادل كرهه الواضح للإخوان أفرادًا ونظامًا، إلا أن قصصه التي جمعها عنهم هناك قصص إنسانية الطابع أيضًا، لكنها كلها مواد لا تناسب جريدته، وهو الأمر الذي يعلمه عادل تمام العلم، ويزيد في تأكيده مدير تحرير جريدته الذي يهتم –فقط- بحجم الثقل السياسي للعناصر التي تستهدفهم قصصه الصحافية:
"يبادرني قائلا:
- إيه يا عم عادل.. هو الجورنال بعتك لأخوك عشان تتفسح ولا تجيب لنا من عنده شغل؟
- أنا مجهز بورتريهات عن شخصيات إخوانية عايشة هناك من بعد 30 يونيو
- زي مين يعني؟
- هما مش شخصيات عامة.. دول ناس مجهولة بس الكتابة عنهم هاتوضح جوانب كتير من عيشة الإخوان في إسطنبول
- ماشي زي مين برضو؟".

غير أن الرواية لا تشير فقط إلى نقصان حرفية مدير تحرير الصحيفة التي يعمل بها بطل الرواية من خلال ذلك الحوار البليد بينهما، وإنما تشير في المجمل إلى انعدام كل من الحرفية والإنسانية لديه على السواء: "يقول: بص يا سيدي، مقربًا من وجهي الصفحة الأخيرة لعدد اليوم، فأستوضح: في إيه؟ فيشير إلى صورة أسفل يمين الصفحة، وفيها يظهر طفل في الخامسة أو السادسة من عمره، من أطفال الشوارع أو من العاملين في الورش. وعلى أية حال، كان يبدو في ملابسه الرثة المتسخة معدمًا، ينظر إلى فوانيس رمضان المعروضة في فاترينة محل. كانت نظرة الطفل معبرة بشكل مذهل، كأن الصغير استدعى كل أوجاع العالم الفقير في نظرته تلك. أبادره قائلًا: يا أخي فعلا نظرة الواد حاجة توجع القلب، فيرد عليَّ بغضب: بس ماوجعتش قلب ابن الشرموطة اللي كتب التعليق على الصورة. أقرأُ التعليق، فلا أسيطر على نفسي، وتخرج مني "أحا" بشكل عفوي، كرد فعل طبيعي على المكتوب. (...) "الجعان يحلم بسوق العيش".

أما على مستوى الشكل، فإن علي سيد يجتهد في صياغة روايته في شكلها الأقرب لبناء القصة الصحافية، من حيث ابتعاده عن تقسيمها إلى فصول معنونة أو حتى ترقيم المشاهد. كذلك فقد صاغ الروائي لغة نصه في الشكل الأقرب للغة الصحافية من مزجها للألفاظ الفصحى البسيطة بالعامية وابتعادها كليةً عن المجاز، لكنه يبدو في الأخيرة منحازًا –إضافة إلى ما فرضه الشكل الفني- إلى جماليات اللغة العامية، وهو ما يتضح في الاقتباس من إبراهيم أصلان في كتابه عن ثورة يناير "انطباعات صغيرة حول حادث كبير"، حيث يتوقف بطل الرواية مندهشًا أمام ما اعتبره جمالاً لغويًا من مزج للفصحى بالعامية في خطاب أصلان السردي: "كان محمد البوعزيزي يجر عربته الصغيرة ويسترزق منها، ثم إن رجال الأمن صادروها(...)" أقرأُ الفقرة للمرة الثانية وأقف أمام الفعل "يسترزق" و"ثم إن"..

وعلى الرغم من أن دائرية الرحلة التي يقطعها البطل –يوميًا- باستخدام مترو الأنفاق، في خطه الأول حلوان/المرج، من بيته إلى الجريدة والعكس، بكل ما تضمه تلك الرحلة من مظاهر سلبية توحي بديمومة الحال المصرية المتردية، إلا أن انتهاء يوم "عادل" العاصف بالأحداث بركوبه للمترو المكيف الجديد والذي دخل الخدمة لتوه، تنبئ بأن أمل حدوث تغيير إلى الأفضل قائم لا محالة.

مقص "الديسك"
وحيث أن سيد علي وجد في "القصة الصحافية" شكلًا روائيًا جماليًا، فإنه يصح في التصدي لنصه، مجاراته فنيًا، بإسناد وظيفة محرر الديسك للناقد الذي يتعامل مع ذلك النص، و"الديسك" هو قسم المراجعة والتحرير بالصحيفة، والمنوط به إعداد المادة للنشر مستخدمًا أدواته التحريرية من حذف وإعادة صياغة.. وغيرها، وهنا نرصد بعض الملاحظات التحريرية التي من الممكن أن يراجع فيها محرر "الديسك" صاحب المادة الصحافية:
في كتابة القصة الصحفية المنضبطة، يعتمد المحرر على الوصف كأداة لإضافة مشهدية إلى مادته الصحافية، إلا أن الكاتب أفرط في استخدامه للوصف، وتوقف طويلًا أما مشاهد اعتيادية ليست في حاجة إلى إسهاب، مثلا، يحاول الكاتب الإفاضة في وصف رحلة المترو اليومية للبطل لصنع مفارقة مع مثيلتها التي خاضها في تركيا، لكن ذلك لا يحتاج عشرات الصفحات ليشعر القارئ بالفرق، كما بدا الإسهاب في الوصف -عمومًا- غير حامل لأية دلالة مطلقًا، في حين أن الرواية كلها لا تتعدى صفحاتها الـ118 صفحة من القطع المتوسط!

يبدو أن اجتهاد الروائي لاختيار لغة بسيطة تناسب هيكله الروائي، قد اخذته بعيدًا عن هدفه، حيث بدت حوارات الشخصيات في مناطق متعددة من السرد مترهلة وزائدة بشكل غير مبرر.

يعتمد الروائي –أي روائي- على إبراز بعض سمات شخصياته من خلال اللغة التي تستخدمها كل شخصية للإفصاح عن نفسها داخل النص، لكن "عادل" الذي يتعامل مع "فايسبوك" كآلة لتضخيم الذات، وينفر من قيام صديقه المصاب بأخذ "سيلفي" لإصابته ونشر الصورة في "فايسبوك"، أو طلب آخر الدعاء لقريبه المتوفى، وعزوفه هو شخصيًا عن وضع صورة لابنه لأن مكتبته الضخمة تظهر في خلفيتها مما قد يوحي بأن هدفه من وراء وضعها هو الاستعراض بالمكتبة، هذا الشخص ذاته يستخدم لغة استهلاكية لوصف نفسه أحيانًا، أو يلجأ لأخرى استعراضية مباشرة وسطحية في تعليقه على بعض الأمور، كما يظهر في تعليقه –مثلا- على زيف أحد الكتاب: "بطريقتك دي ممكن تكتب حاجة جميلة، لكن هاتفضل مزيفة، وهايفضل الفرق بينها وبين غيرها زي الفرق بين اللوحة الجميلة المزيف واللوحة الجميلة الأصلية، الاتنين فيهم جمال، لكن الأخيرة بس هيا اللي فيها روح".

بدا الروائي أحيانا وكأنه يشك في امتلاكه لأدواته، حيث لجأ إلى لغة مسرحية للإخبار عن نقلاته السردية أو رغبته في تغيير المشاهد، بأن يحمل الحوار وظيفة الانتقال سرديًا أو بين المشاهد بشكل مسرحي لا يناسب السرد الروائي.

تتحقق نهاية الرواية عند الصفحة رقم 115، فيما تبدو الصفحات الثلاث التالية لها زائدة بشكل غير مفهوم، فإن كان غرض الروائي هو التأكيد على البنية الدائرية للسرد، فهي متحققة بالفعل في إيقاع الرواية من بدايتها برحلة المترو –ذهاب وعودة- وانتهائها بتلك الصفحة (115) التي يصل فيها البطل إلى قرار قد يمنعه من إنجاز عمله وتقديم الصفحات ومن ثم احتمالية عودته للتحقيق مرة أخرى. لذا فإن الرواية ليست بحاجة إلى مشاهد زائدة تبدو كنتوء لها، أو إلى تكرار الفقرة التي يبدأ بها الكاتب قصته ليستخدمها نفسها كمختتم لروايته، والتي تنتهي بكلاشيه "مواجهة العالم"، لتأكيد تلك الحالة الدائرية.


(*)صدرت "اتجاه المرج" مؤخرًا عن دار روافد بالقاهرة، وهي الرواية الثانية لعلي سيد علي بعد رواية بعنوان "الشهير بسراييفو".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها