الأربعاء 2016/11/16

آخر تحديث: 15:11 (بيروت)

"حريق في البحر": العار الذي تشاهده عيوننا الكسولة

الأربعاء 2016/11/16
"حريق في البحر": العار الذي تشاهده عيوننا الكسولة
نظرة شخص يمشي على الأرض، وليس رؤية عين الطائر
increase حجم الخط decrease
بعد عرضه في الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي، انهال المديح والثناء على الفيلم وفريق العمل، وكان مشهداً نادراً خلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب عرض الفيلم، حين وقف الصحافيون والنقاد لتحية فريق العمل قبل بدء المناقشات حوله. ربما هو إعلان وتأكيد على أهمية السينما، والوثائقية منها خصوصاً، وضرورتها في طرح وفضح القضايا الشائكة والمسائل الإنسانية العالقة بديلاً من ابتذالها بالتكرار اليومي في نشرات وتقارير إخبارية لا تقول سوى أرقاماً صمّاء لا تكفي لبيان حجم الأضرار الكارثية والممتدة. وربما هي عقدة الذنب التي سيطرت على الأوروبيين تجاه الملايين الذين منعتهم حكوماتهم من الوصول إلى أراضيها، بإقامة الأسوار والأسيجة الشائكة والملاحقات والاتفاقيات.

المخرج الإيطالي جيانفرانكو روزي حلّ في جزيرة لامبيدوزا ووضع كاميراته لمدة عام كامل في تلك الجزيرة اليونانية الصغيرة التي تبعد حوالى 200 كيلومتر عن الساحل الجنوبي لإيطاليا، والتي بتنا نسمع اسمها كثيراً في نشرات الأخبار حيث تمثّل محطة ترانزيت لموجات اللاجئين المتدفقة من الجنوب والشرق إلى أوروبا. لامبيدوزا هي مسرح أحداث هذا الوثائقي الذي لا يترك الفرصة لأحد كي يتجاهله، وكانت إيطاليا قد أقامت في الجزيرة مخيماً للاجئين في العام 1998، إلا أن الظروف الإنسانية فيه كانت دون المستوى المطلوب، وافتضح أمره بعدما زاره صحافي متخفٍّ، كشف المعاملة السيئة التي يلقاها المهاجرون من قبل مسؤولي المخيم، ما دفع الحكومة الإيطالية إلى تطوير المخيم وتوسيعه، لكن تلك التحسينات قوبلت باحتجاجات من سكان الجزيرة الذين اتهموا الساسة الإيطاليين بالاهتمام بحال المهاجرين غير الشرعيين أكثر من اهتمامهم بحال مواطنيهم...

يقول المخرج: "بعد الهولوكوست، هذه واحدة من أعظم المآسي التي نختبرها. عندما يموت الناس أمام عيوننا، لا يجب علينا أن نشيح بنظرنا بعيداً". ذهب روزي إلى لامبيدوزا وفي ذهنه إنجاز فيلم قصير ليجد نفسه مقيماً لمدة عام كامل في الجزيرة التي لا يتعدى تعداد سكانها الخمسة آلاف شخص، كانوا شاهدين على أكثر من 400 ألف لاجيء و20 ألف غريق، وفقاً للاحصائيات الرسمية.

"حريق في البحر"(*)، الفيلم الفائز بجائزة "الدب الذهبي" في برلين، يأخذنا إلى عوالم موازية ومتوارية، من خلال المراوحة بين الحياة اليومية لصبي من سكان الجزيرة ومجموعة من اللاجئين الأفارقة. فمن جهة نشاهد العمليات اليومية التي تقوم بها البحرية الإيطالية لإنقاذ قوارب مكدسة بالمهاجرين، ومن جهة أخرى هناك جانب من الصورة نراه من خلال عين الصبي بطل الفيلم، وهو يمثّل ضمنياً منظور المتفرج. نتعرف على النشاطات اليومية لذلك الطفل صامويل (صامويل بوتشيلو) وهو ابن عائلة من الصيادين، يترك المدرسة ليلعب مع أصدقائه لعبة الحرب من خلال تفجير شجيرات الصبّار بالألعاب النارية البدائية، ثم يذهب ليطارد الطيور بنبلته، ثم نشاهده يتعلّم من عمّه الصياد كيفية التغلب على دوار البحر. يعاني صامويل أيضاً من مرض "كسل الرؤية"، حتى إنه يضع لاصقاً على عينيه كي يرى جيداً. يختار روزي هذا المجاز المباشر للإشارة إلى التراجيديا التي لا يريد معظمنا أن يراها أو يسمع عنها أو حتى يشغل باله بها: هناك ثلاثة ملايين شخص في أنحاء العالم تركوا أوطانهم فراراً من الحروب والمجاعات والإرهاب.


"في لامبيدوزا جميعنا صيّادين"
"البحر ليس المكان المناسب للموت.
الحياة نفسها شيء خطير.
إذا لم نستطع الموت في سجن ليبي،
لا يمكننا الموت في البحر."

هذه العبارات هي جزء من سلسلة طويلة يوردها أحد اللاجئين النيجريين في الفيلم ويؤديها على هيئة أغنية "راب". سيخبرنا عن عدد أصدقائه الذين اختبروا كل شيء من أجل أن تطأ أقدامهم القارة العجوز: الرحيل من نيجيريا وترك الأهل والأصحاب، عبور الصحراء الإفريقية الطويلة القاسية، الوقوع في أيدي مقاتلي داعش في ليبيا، التضوّر جوعاً في سجون ذلك البلد، أو الموت غرقاً في البحر.

وعلى ضوء شتوي خافت وبارد، حيث الشمس لا تشرق أبداً، يضع روزي كاميراته ويتحوّل بها إلى مجموعة من الصيّادين ساكني الجزيرة. نشاهد الصور التي يحتفظ بها الطبيب المعالج لصامويل في حاسوبه الشخصي، فتتبيّن لنا قصص مفجعة لن نراها أبداً في المعلومات التي تنقلها وسائل الإعلام، ويصير واضحاً أن بارتولو ليس مجرد طبيب في جزيرة متوسطية، بل هو طبيب حرب على الأخص. يعرف روزي كيف يظهر تلك الفظائع بطريقة تبعث على الكآبة، يساعده في ذلك عدم توافر الإضاءة المناسبة للكادرات المضبوطة وهو ما يخلق بدوره فضاءً للتخيّل والتفكّر في ما وراء المآسي التي نعاينها على الشاشة.

"منذ العام 1991 حين وصل القارب الأول، رأيت الكثير من الأطفال القتلى والنساء اللواتي تعرضن للاغتصاب، عشرات المهاجرين المخبأين في أقبية القوارب، الجثث الطازجة والمتحللة.. عادة ما تأتيني الكوابيس. صنعت حفرة كي أدفن فيها الكلام عن ذلك ولكنني أعرف أيضاً انه لا بد لي من الحديث. لذلك آمل أن هذا الفيلم قد يحرك إحساس من يشاهده. شخص ما يأتي إلى الجزيرة في استطاعته فعل شيء أكثر مما نقوم به"، يقول الطبيب.
ورغم التراجيديا التي تحتلّ الجزيرة وحياة صامويل بأشباحها؛ تكون الفرصة متاحة لبعض الضحكات النادرة التي تخرج من الجمهور، فبراءته وتعليقاته المضحكة تعطي الفيلم هدوءاً ضرورياً بين العواصف الكامنة في تفاصيل مأساة لا تزال مستمرة.

بين الصيّادين والمهاجرين
ساعدت التكنولوجيا، روزي، كثيراً، فقد أتاحت له استخدام كاميرا خفيفة للغاية، وهي أيضاً التي وفرت له إمكانية تسجيل الصوت. ربما لهذا السبب يأتي التصوير واقعياً للغاية ويتم من دون ملاحظة أحد تقريباً، حيث يمكن للمتفرج اختبار العملية البحرية "بحرنا Mare Nostrum" التي تنفذها قوات الأسطول البحري الإيطالي أو الاستماع إلى حكايات اللاجئين الأفارقة حول المبالغ التي يدفعونها للمهرّبين قبل أن ينتهوا موتى من الاختناق وحرارة محرك القارب. "إنهم يشمّون رائحة زيت البترول، وهذه الرائحة لا تذهب أبدا" يقول أحد الناجين.

ويقول البابا فرانسيس في وقت سابق من العام الحالي منتقداً السياسيين في البرلمان الأوروبي: "لقد أصبحنا معتادين على الأرقام والحوادث، اعتدنا "موجات اللاجئين" في المتوسط طوال العام، وصار البحر مقبرة كبيرة". في الفيلم ستتأكد تلك الاستعارة للبحر كمقبرة من خلال حكاية جدّة صامويل التي تقول: "أثناء الحرب العالمية الثانية كان الرجال يخشون الذهاب إلى الصيد في الليل، والبحر كان أحمر". إنه يحمّر مرة أخرى بدماء المهاجرين الذين لا يسعفهم الحظ بالنزول على الساحل الأوروبي.

عقب عرض الفيلم في برلين، صرّح روزي بأن هذه هي الفرصة المثالية لتقديم فيلمه فهناك أكثر من مليون شخص طلب اللجوء لألمانيا في 2015 ومعظمهم من سوريا، في برلين وحدها هناك 70000 سوري وفقاً للارقام الرسمية. "الآن بعد عشرين عاماً أدركت ما يحدث حقا في لامبيدوزا. أنجيلا ميركل تتحدث فقط عن اللاجئين السوريين"، يقول المخرج منتقداً.
 وبالوضع في الاعتبار اختيار المخرج للموضوع الذي سيكون محل اهتمامه في الفيلم؛ يمكن اتهام روزي بتعميم محنة اللاجئين وتجنُّب أي وصف على نطاق واسع أو تفسير للأزمة، وكذلك الفشل في تحقيق تفاعل بين المهاجرين وسكان الجزيرة. فالفيلم، وإن كان مميزاً ويتبع نهجاً محدداً في مقاربته لموضوعه يتم خلاله إبراز فكرته بفضل تصويره في المقام الأول، إلا أنه يتكشّف لنا أن بطله ليس لاجئاً أو مهاجراً من الذين ترد أرقامهم في الأخبار بل هو واحد من سكّان هذه الجزيرة. ولكن للمخرج أيضاً تفسيره بهذا الشأن إذ يقول: "لم يكن باستطاعتي التركيز على حياة واحد منهم، لأن المكان يتغير حاله في غضون يومين، لذا كان من المستحيل اتباع سردية معينة".

وإذا كانت قوة الفيلم الأبرز تتمثل في التصوير الليلي ومشاهد تحت الماء، التي تتناقض مع فكرة أغلب الجمهور عن رحلة الغوص في أعماق البحر، خصوصاً مع الأجواء الكابوسية التي نشهدها مع عملية إنقاذ المهاجرين قبل طلوع الفجر؛ فإن الفيلم يقوم بمحاولة تجميل موضوعاته على حساب توسيع حدود البحث. ورغم ذلك، تجدر الإشارة إلى عدم ارتكان روزي بالكامل لقراءة واحدة لعمله، فالكثير من اللقطات يمكن الاستماع إلى صداها يتردد بطرق أخرى غير التي تبدو للوهلة الأولى. "حريق في البحر": صورة كنظرة شخص يمشي على الأرض وليس كرؤية عين الطائر، من خلال رؤية محددة لجزيرة لامبيدوزا كمسرح للسرديات التراجيدية والمرعبة والمعجزة، عادية ومألوفة للغاية. هذه الخيوط عادة ما تتقاطع مع بعضها البعض، ومن هنا يمكن القول بأن روزي يقترح علينا النظر إلى الظواهر التاريخية بتفصيلاتها المزعجة والمفككة ليفتح الطريق أمام أسئلة المشاهدين حول التعايش الوثيق بين معارك النجاة للمهاجرين والحياة اليومية للسكان بدلاً من تقديم أي أجوبة جاهزة.
 
(*)"حريق في البحر" تم عرضه في القاهرة ضمن فعاليات النسخة التاسعة
من "بانوراما الفيلم الأوروبي".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها