الثلاثاء 2016/11/15

آخر تحديث: 12:35 (بيروت)

قيامة الإنتظار في "مقبرة الجلال"

الثلاثاء 2016/11/15
increase حجم الخط decrease
الدخول إلى عرضٍ سينمائي هو الدخول في الإنتظار. تبدأ جلسة مشاهدة الفيلم بتلك اللحظة التي ندخل فيها إلى الصالة ومعنا بعضٌ من الواقع الخارجيّ. نجلس مترقّبين العتمة التي تجلب لنا واقعًا مرادفًا للذي نحمله أو مغايرًا عنه. تختلف السيمات السينمائيّة باختلاف تعاطيها مع تلك اللحظة، أي في تحوّلات الإنتظار أو استمراره بعد الدخول فيه.


في سينما السرد المتخيّل- أي الأفلام التي تروي قصّةً متخيّلة تجري في عالمٍ واقعي أو متخيّل- تسود نيّة تحويل الإنتظار إلى تشويق. تغلّف معظم أفلام السرد زمنها السينمائيّ بالمعلومات السرديّة. تخلق حينها تسلسلًا قصصيًّا في محاولةٍ لإلهائنا من وعينا لحالة الإنتظار بانغماسنا في متابعة الحدث الجاري في المشهد الحالي وترقّب الحدث الآتي في المشهد التالي. حتّى في أنماطها البعيدة من أفلام الحركة والتشويق، مثل الواقعيّة الإجتماعيّة، تستعرض سينما السرد بمعظمها زمنًا موقوتًا بالأحداث السرديّة فيصبح الوقت ووطأة مروره أدوات سرديّة. بالتالي، تنطمس لحظة الإنتظار الأوّليّة تحت التفاعل مع الأحداث الروائيّة وترقّب تتابعها.

من خلال هذا الطمس، تطمح السرديّة إلى تغييب زمن أجسادنا الجالسة في ظلمة العرض ونقلنا إلى زمنٍ متخيّل. حينها ندخل في النسيان، نسيان الزمن الفعلي من خلال تفاعل الذات مع الزمن المتخيّل.

لكنّ لبعض الأعمال السينمائيّة إنشغالها في احتمالات الإنتقال من نسيان الزمن الفعلي إلى استذكار حالة الإنتظار ثمّ النسيان مجدّدًا فالإستذكار. كما لو أنّها تخلق برزخاً لحالتي النسيان والإستذكار. يخلق المخرج التايلاندي، آبيشاتبونغ ويراسيثاكول، هذا البرزخ، في فيلمه الأخير "مقبرة الجلال" Cemetery of Splendor الذي عرض ضمن فعاليّات أسبوع قناة "آرتي" في سينما ميتروبولس -بيروت.


يروي الفيلم أحداثه في مشفى قرية يرتمي فيه جنود مصابون بمتلازمة غامضة تأخذ منهم القدرة على الحراك فتطرحهم نيامًا. تدخل الشخصيّة الرئيسيّة، العجوز "جنجيرا"، إلى المشفى كمتطوّعة لتعتني بالجندي الشاب "إت" فتلتقي الشابة كانغ التي لديها القدرة على التوسّط إلى عالم الأرواح. يبني ويراسيثاكول في الفيلم عالمًا واقعيًّا، أو على الأقل يشابه الواقع، لينتقل من خلال السياق السردي إلى عالمٍ يختلط فيه الواقع مع الحلم والحاضر مع الغائب.

في بداية الفيلم، تُوظّف حبكة "متلازمة النوم" لجعل أجساد الجنود النائمة - كما الجلوس الدائم للأقارب والممرّضات من حولهم - أداة رسم تشكيل أفقيّ في مشهديّة الفيلم. يمتدّ التشكيل الأفقي إلى خارج المشفى في أرجاء فضاءات أُخرى للفيلم كالأدغال والبحيرة ليهيئ ثباتاً زمنيّاً يضبط الإيقاع الفيلميّ الهادئ. يتحاور الإيقاع الأفقي مع حركة تشكيليّة موازية توحي بإحساس الإرتفاع عن الأرض. يقترحها ويراسيثاكول بصريًّا حين يضع بجانب أسرّة المشفى آلاتٍ عموديّة تساعد الجنود على التنفّس، تمرّ ألوانٌ فيها من الأسفل إلى الأعلى. يضاعف الحركة العموديّة في تكرار تصويره لهبوب الهواء في الأدغال ولقطاتٍ لطواحين برمائيّة تطفو على المياه. كونترابنط سينمائيّ بين ثبات أفقي وحركة ارتفاعيّة لخلق حالة حدّية  بين الحضور والتجاوز.

في منتصف الفيلم مشهدٍ محوريّ: تقف الشخصيّات الرئيسيّة أمام شاشة عرض سينما بذهولٍ يشابه التنويم المغناطيسيّ. حينها، تُطلَسُ صورة "مقبرة الجلال" بألوانٍ مشابهة لتلك التي تطفو في آلات نوم الجنود وكأنّ الفيلم نفسه يدخل في حلمه الخاص. داخل الحلم، يبقى الفيلم على حاله التشكيليّة المشابهة للواقع. لا تشكيليّة سرياليّة أو فانتازيّة لتصنيف العالم السينمائي بالحلم، بل هو حقل سرديّ يتواجد فيه الواقع السينمائيّ مع الحلم السينمائي في طبقات تخييليّة. يطفو الواقع السينمائي على سطح الطبقة المرئيّة كاسيًا الحلم السينمائي الراقد في الطبقة السفلى غير المرئيّة. يتمظهر العالم غير المرئيّ داخل حوارات الشخصيّات الواصفة للأحلام. تنسدل الصور الواقعيّة أمامنا على الشاشة والحالمة المتخيّلة في أذهاننا لتكثيف حال الفيلم الحديّة. بتشابك الفيلم مع حلمه تصبح مشاهدة الفيلم كالدخول في النوم اليقظ ونصبح متوحّدين مع الفيلم في حدّيته.

يُطيل آبيشاتبونغ ويراسيثاكول لقطاته، لينساب الوقت داخلها مثقّلًا بالحوارات الطويلة والأحداث السرديّة المقلّة. تسير مشاهدة الفيلم بمحاذاة الملل في تثاقل الوقت السردي. ينتظم داخل هذا الثقل طموح سينما ويراسيثاكول: دعوةٌ لاستدراك الذات في التنقّل بين ترقّب الأحداث وانتظار مرور الوقت بكامل وطأته. من يقبل هذه الدعوة، يعود بجسده إلى حال الإنتظار الأوّليّة من دون الخروج من التواطؤ مع السرد، أي أنه يستدرك وجود جسده أمام الشاشة من دون الخروج من الزمن المتخيّل داخل الشاشة. في ذلك مشاركة بين المشاهد والفيلم لخلق حالة حدّية بين الزمن الجسديّ الفعليّ والزمن السرديّ المتخيّل، حالة بين الإنتظار والنسيان أي بين الحضور والغياب. برزخ سينمائي، يهوم فيه من دخل في الإنتظار.

ربما لم يستطع الجميع في صالة عرض "ميتروبولس" أن يمتطي دعوة سينما ويراسيثاكول. ربّما شعر البعض في الملل، أو اكتفى بوصف الفيلم بالسينما البطيئة والتأمليّة. لكني، عند خروجي من الفيلم، ثمّ من الصالة، شعرتُ أنّني عارٍ من الواقع الخارجي، كأنّي خلعته في الصالة قبل الدخول في النوم اليقظ، وكأنّي الآن داخل إنتظار واقعٍ جديد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها