الثلاثاء 2016/11/01

آخر تحديث: 13:23 (بيروت)

"ذبابة في الحساء".. الأكلات المفضلة مدخلاً لسيرة ذاتية

الثلاثاء 2016/11/01
increase حجم الخط decrease
"هل صحيح أن المرء يتلبسه الحنين للأهوال عندما يتقدم في العمر؟ أنا أشتاق إلى ظهيرة من أغسطس ما بعد الحرب. أنا وأمي وأخي تحت تهديد السلاح نمشي على أقدامنا من سجن إلى آخر. في لحظة نمرُّ ببستان ويسمح لنا الحرّاس بأن نتوقف ونقطف بعض التفاحات. شيء لا مثيل له في العالم. التهام التفاح ونحن نتحدث مع حرّاسنا".

يبدو أن الشاعر الأميركيّ من أصل صربي تشارلز سيميك (1938) لم يتلبسه الحنين للأهوال فقط، بل كان هذا الحنين محركاً أساسياً لكتابة سيرته الذاتية "ذبابة في الحساء"، فسيميك يستعيد صوت الطفل الذي كانه في مدينة بلغراد، ليبدأ بسرد ذكرياته. فما أن يستشعر القارئ صوت هذا الطفل حتى يتساءل؛ ما هي التفاصيل التي من الممكن أن تثير طفلاً في زمن الحرب العالمية الثانية؟ لكن الشاعر سرعان ما يصل إلى خلاصة تتعلق بذاكرته ورؤيته إلى الفن فيقول: ما يجعل الفن والذاكرة يعيشان هي التفاصيل، شعرية التفاصيل.
 
فما كان متوقعاً من شاعر عاش أقسى الظروف في مدينته بلغراد، ومن ثم محاولات لجوء نهايتها الفشل والسجن، ومن بعدها مراهقة تعيسة وفقر وفشل في الدارسة في مدينة باريس؛ هو أن نقرأ لغة مليئة بالقسوة والمشاهد المليئة بالدراما العنيفة، لكن سيميك يفاجئنا ويحكي لنا عن لحظات مليئة بالسعادة والطرافة بلُغة مليئة بالسخرية والتهكم. بالطبع لم تخلُ هذه السيرة من مشاهد الدمار والتشرد ولحظات الجوع، لكن لا قارىء هذه السيرة لا يستطيع إلا أن يتفاعل مع ما يرويه سيميك من قصص وحكايات حدثت في ظل تلك "الأهوال"، خصوصاً أن هذا الشاعر الذي عانى ما عاناه، لم تهزمه أيام الحرب ولا الشتات.

فيحكي سيميك: "مرّت علينا أوقات في 1947 أو 1948 لم نجد شيئاً نأكله. لم تكن أمي قد أستأنفت عملها في الكونسرفتوار بعد. أتذكر أنني رجعتُ من المدرسة إلى البيت في ظهيرة، قلت لها إني جائع، فانفجرت في البكاء. الشيء الوحيد الذي وجدته هناك في ذلك اليوم، كان البصل الذي قطّعته شرائح. لم يكن هناك زيت، فقط بعض الخبز الجاف وملح. فكرتُ ساعتها أن مذاقه لذيذٌ جداً".

في العام 1953 سيصل سيميك مع أمه وأخيه الصغير إلى فرنسا، وهو في الخامسة عشرة من عمره، وستكون باريس محطة مؤقتة، ومن بعدها سيهاجرون على متن سفينة إلى أميركا حيث سيلتقي بوالده.

ويقول سيميك عن انطباعه الأول عن أميركا: "كل شيء رائع بشكل لا يصدق! القمامة في الشوارع، طريقة ارتداء الناس لملابسهم، البنايات العالية، القذارة، الحرارة، التاكسيات الصفراء، لوحات الإعلانات وإشارات المرور. لم تكن أميركا مثل أوروبا؛ كانت عظيمة في بشاعتها وجميلة للغاية في الوقت نفسه. أحببتُ أميركا على الفور".

سيبدأ صاحب "أرق الفنادق" تجربة حياة جديدة في أميركا. فما بين متابعة الدراسة، والعمل في أعمال مختلفة، كبائع في محل للألبسة، أو ساعٍ في جريدة "صن تايمز"، كل ذلك بالتوازي مع بداية إهتمامه بالفن التشكيلي والرسم وصولاً إلى كتابة الشعر. ستأتي كتابة الشعر مصادفة عندما يتعرف سيميك على اثنين من أصدقائه يكتبان الشعر "طلبت منهما أن أقرأه. لم يعجبني ما قرأت. ذهبت إلى البيت وكتبت بعض القصائد بنفسي من أجل أن أبيّن لهما كيف يجب أن يُكتب الشعر. في البداية كان فعل الكتابة والانطباع الأول عنه ممتعاً. لكن لدهشتي، أدركت أن قصائدي ليست أقل غباء من قصائدهما". هذه المحاولة ستدفع سيميك لقراءة أنطولوجيتين للشعر محاولاً "التكهن بالسرّ"، بحسب تعبيره. وسيتبعها بمحاولات عديدة ليكتشف بأنه "خلال عملية الكتابة، اكتشفت جزءاً من نفسي، مخيلة ورغبة في التعبير عن أشياء محددة لا أريد نسيانها".  

لم يعتمد سيميك في سرده لهذه السيرة على تسلسل زمني للأحداث، باستثناء أولى ذكرياته التي اكتفى بإشارة إليها في خاتمة الكتاب، والتي تعود إلى العام 1942 أو 1943. أنها مزيج من الذكريات، واليوميات، تتخللها مواقف ما زالت محفورة في ذاكرته.

كما لم يتحدث كثيراً عن الشعر والكتابة، باستثناء حديثه عن البدايات، والقسم الأخير من الكتاب الذي ذهب فيه للحديث عن تأملاته في الشِّعر والكتابة والدين والأيديولوجيا. فيقول: "كل الفنون تأتي من مأزقنا المستحيل. هذا هو المصدر الأزليّ لجاذبيّتها. كثيراً ما يقول الشاعر: تعوزني الكلمات. كل قصيدة هي فعل يأس، أو إذا أحببتَ، رمية نرد"...

وفي مقطع آخر: "يجلس الشاعر أمام ورقة بيضاء، وفي احتياج إلى أن يقول أشياء كثيرة في حدود مساحة القصيدة. العالم كبير، الشاعر وحيد، والقصيدة ليست إلا بعض اللغة، أنها خربشات بالقلم محاطة بصمت الليل".

ومن أكثر الأشياء اللافتة في سيرة سيميك؛ صداقته بأبيه (جورج سيميك). فعدا أن والد سيميك كان يأخذه إلى البارات والمطاعم، ويشربان معاً ويأكلان معاً؛ حكى سيميك كيف أن أباه كان يستمتع بتبديد إيجار البيت قبل يوم من موعد تسديده، مفسراً الأمر لابنه "أن المرء لا يجب أن يقلق أبداً من المستقبل. فلن نكون أبداً شباباً كما نحن الليلة. إذا كنا أذكياء، ونحن كذلك، فسنجد طريقة في الغد لتسديد الإيجار"... كما أن عشق سيميك للطعام والوجبات المفضلة لديه تجعله لا يفوت أي موقف أو حكاية مرتبطة بالطعام أو بأنواع لأكلات يحبها، فيقول: "يمكن للمرء أن يكتب سيرته الذاتيّة عبر وصف كل وجبة استمتع بها في حياته، وستكون قراءتها أكثر متعة مما نقرأه عادة. بصدق، ما الذي تفضله، وصف القُبلة الأولى أم الكرنب المطبوخ بإتقان؟".


"ذبابة في الحساء" لتشارلز سيميك. ترجمة: إيمان مرسال – صادر عن دار "كتب خان" – القاهرة 2016.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها