الخميس 2016/10/27

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

"كافيه سوسايتي" لوودي آلن: ملذات صغيرة تبقي الموت بعيداً

الخميس 2016/10/27
"كافيه سوسايتي" لوودي آلن: ملذات صغيرة تبقي الموت بعيداً
يعرف المخرج كيف يُدخل المشاهد في حكايته سريعاً
increase حجم الخط decrease
كيت بلانشيت، إيما ستون، يواكين فينيكس، كولين فيرث، سكارلت يوهانسون، بينلوبي كروز، خافير بارديم، كريستين ستيورات. حتى خلال السنوات العشر الماضية، التي شهدت أفول نجمه وفشله في الحصول على الإشادات الدولية مثلما كان الأمر في السبعينيات والثمانينيات؛ يظل وودي آلن محظوظاً بتوظيف مجموعة من صفوة نجوم هوليوود يقدمون له ما يشبه مكافأة نهاية الخدمة في أفلام تبدو مُكررة ولا تقول جديداً. والحق أن المخرج العجوز لم يكن أكثر حظاً من قبل في اختيار ممثليه، مثلما في "كافيه سوسايتي"(*)، فيلمه الأكثر طموحاً في السنوات الأخيرة والأفضل منذ "ياسمين أزرق" الذي أنجزه قبل ثلاث سنوات من بطولة كيت بلانشيت.

المخرج الذي يواظب منذ 50 عاماً على إنجاز فيلم جديد كل عام ولا ينوي التقاعد أو أخذ إجازة من السينما، لأنه يرى جنّته في تحقيق الأفلام، يقدّم فيلما مزاجياً من دون أن يفقد لمساته وتكتيكاته الفنية معتمداً على خبرة طويلة يحملها معه في مشاريعه التي تبدو مؤخراً أفلاماً شخصية يحكيها صديق لصديقه القديم. يعرف كيف يُدخل المشاهد في حكايته سريعاً، ولا يهمّ بعد ذلك ما سيأتي من أحداث ومفارقات ربما تمثّل فجوات سردية، لكن المُشاهد، المتآلف بدوره مع المخرج، وقد درّبته السنين الماضية على طبعه، سيساير ذلك الثرثار الممتع ليستمع إلى أكبر قدر ممكن من حكايات من أزمنة ماضية كانت الدنيا فيها لا تزال بخيرها والسماء أقرب مما تبدو عليه.

المعدل الإنتاجي المذهل لآلن -فيلم كل سنة- يرجع جزئياً إلى موهبته في تأسيس مقدمات جذابة بصرياً لأفلامه تتحدث عن نفسها: آلة زمن تأخذ كاتباً ليعود إلى باريس في عشرينيات القرن الماضي (منتصف الليل في باريس)، رجل عقلاني يحاول فضح زيف مريضة نفسياً ولكنه يقع في حبها (رجل لاعقلاني)، فنان بوهيمي يصبح أحد أضلاع علاقة حب ثلاثية مع امرأتين فائقتي الجمال والجاذبية (فيكي كريستينا برشلونة)، وأشياء من هذا القبيل.

"كافيه سوسايتي" مختلف عن هذا كله، ويصعب تلخيصه في جملة أو اثنتين، ربما نقول أنه قصة حب، أو مثلث حب، أو حكاية نضج رجل شاب. يبدو أشبه بلقطة فوتوغرافية من العصر الذهبي الهوليوودي –خلفية مكانية شبيهة لفيلمي الأخوين كوين "بارتون فينك" و"هيل سيزار". لكن بعد ذلك، ومع تقدم الفيلم، يعود آلن إلى أرضه المحبوبة، نيويورك. عادة ما توفر الكتب والأفلام الكلاسيكية علامات إرشادية في الكثير من أعمال آلن (آخر أفلامه "رجل لاعقلاني" كان تنويعاً على "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي)، لكن هنا يحدث بشكل عرضي أن يقدم لمحة من "الشقة" لبيلي ويلدر، وربما لمسة من "فيرتيجو" هيتشكوك. كذلك يجرى تقديم الأفلام السابقة لآلن نفسه من خلال ملاحظة تقاسم "كافيه سوسايتي" لبعض العناصر مع أفلام أخرى: الخط الدرامي الذي تمثله العائلة اليهودية في الفيلم (أيام الراديو)، وتجاور صناعة الترفيه مع العصابات المنظمة (رصاصات فوق برودواي)، أو اضطرار شاب للبقاء وحيداً في فندق لأيام ومصادقة فتاة شارع مؤقتاً (تفكيك هاري).


يدور الفيلم مثل معظم أفلام "آلن"، حول السينما، وما يرتبط بها من حيوات. لكن الجديد هذه المرة هو أنه يذهب إلى لوس أنجليس، تلك المدينة التي يُكنُّ لها كراهية تاريخية، لكنها لوس أنجليس الثلاثينيات، حين كانت عاصمة السينما باقية على بعض براءتها وحيث الكلمة الفصل في صناعة السينما محفوظة للاستديوهات ووكلاء أعمال الفنانين. الفيلم نفسه يبدو مغايراً عما اعتاده آلن من ناحية كونه متمدداً ومنتشراً. منذ المشهد الافتتاحي ومع صوت وودي آلن نفسه، الذي يقوم بالتعليق والتمهيد لظهور شخصيات الفيلم، يجرى تعريفنا ببيئة الأحداث.

"عندما تغيب الشمس في تلال هوليوود، يشبَّع الضوء بلون محبب كالألوان الدافئة. بنيت منازل نجوم هوليوود في أواخر العام 1930 لتكون مدهشة. كانت حفلات الكوكتيل وتجمعات العشاء تشهد صفوة المجتمع وهم يستنزفون الضحكات العالية ويتبادلون المزحات ويعقدون الصفقات ويتبادلون الإشاعات"، يعلّق آلن. ثم ندخل عالم "فيل" (ستيف كاريل) الذي يتولى إدارة أعمال مجموعة من نجوم الشاشة في ذلك الوقت، وتتردد أسماء أيقونات ذلك الزمن، مثل باربرا ستانويك وبول ميوني وجودي غارلاند.

يترك "بوبي" (جيسي آيزنبرغ) حي برونكس النيويوركي، المشهور بغالبية سكانه من اليهود المهاجرين، ويأتي إلى هوليوود ليوظّفه خاله، "فيل"، في إحدى الوظائف المتواضعة. لكنها ستكون وظيفة كافية ليقع في حب سكرتيرة خاله، "فوني" (كريستين ستيوارت، في ثالث فيلم لها مع آيزنبرغ)، التي ستخبره أنها في علاقة عاطفية مع رجل غامض. ولكن ذلك لن يمنع تسلل الحب إلى قلب السكرتيرة الجميلة. نحن في فيلم لوودي آلن، وكل شيء محتمل، كما أن كل شيء غير مكتمل. هذا الجزء من الفيلم سيكون بمثابة قطعة من "الشيكولاتة" لأي مشاهد يستجدي نوستالجيا هوليوود القديمة وقصص الغرام اليائسة والمستحيلة الدائرة على خلفية من أفلام الثلاثينيات وميلودرامياتها الخالدة. مع تطور الأحداث، يترك بوبي، هوليوود، وفوني خلفه، ويعود إلى نيويورك ليبدأ حياة جديدة في إدارة النادي الليلي الذي يمتلكه شقيقه، بينما تتزوج فوني في هوليوود.

يحشد الفيلم أشياء كثيرة في حبكته في 96 دقيقة هي مدة عرضه. ربما يتساءل المشاهد إذا ما كان "آلن" سيصنع منها كولاجاً في وقت ما بطريقة بارعة، لكن من الصعب أن تضع سؤال البراعة والحذق في بالك عندما تتعامل مع السيناريوهات بمثل تعامل وودي آلن. هيكل الفيلم فضفاض للغاية وحكايته تعجّ بشخصيات ثانوية كثيرة وحكايات فرعية متشعبة، يستثمرها المخرج العجوز في إشباغ رغبته في الحكي ورسم البورتريهات في مساحة زمنية أفقية. وربما، في يد سينمائي آخر أقل مهارة، كنا سنشهد تشظياً وارتباكاً في الفيلم كمنتج نهائي. مثلاً، يتوقف الفيلم في ما يشبه انحرافاً مفاجئاً في السيناريو، ويتفرّغ لتقديم ملخص لحياة إحدى الشخصيات الثانوية التي يمكن أن تحذف نهائياً من الفيلم من دون تأثير يذكر. ومع ذلك، في تلك الحالة على الأقل، يبقى نقص تماسك السيناريو اختياراً يمكن تثمينه بالنظر إليه كإقرار من المخرج بـ"اللامعنى" الذي يحكم الحياة برمتها، يتم تقديمه بطريقة مواربة. الحياة هنا خدعة وتقلبات بين الحياة والموت والصراخ والحب والتشرد والثراء والدعة والضجيج.

وكما في "جرائم ومخالفات" يتضمن الفيلم مقابلة بين طبائع النفس البشرية من خلال شخصيتين يقع بوبي في المنطقة الوسطى بينهما: مجرم ومثالي، المجرم "بن" (كوري ستول) هو الشقيق الأكبر لبوبي، والمثالي هو زوج أخت بوبي، وكلاهما يعزز الشعور بأن الحياة خدعة مؤقتة. المجرم يتحول إلى المسيحية بعد إدانته والحكم عليه بالإعدام، لأن اليهود لا يعتقدون في الحياة الأبدية بعد الموت، في ضربة كتف قوية وساخرة، للأديان ومروجيها، مِن وودي آلن اليهودي بالوراثة. أما المثالي، فمثقف شيوعي يصرّ على "إنسانيتنا المشتركة" من دون أن يحقق شيئاً، وفي النهاية يعترف بفشله. الضوء الصغير الوحيد في الفيلم هو الحب، الذي يُلزم العشاق بطريقة تتجاوز الزمان والمكان، لكن حتى هذا الحب الرقيق يأتي إلى نقطة تحول حزينة ويبلغ ذروة توهجه، لحظةَ يصير مستحيلاً ومفقوداً إلى الأبد.


آيزنبرغ ممثل شاب بنظرة قلقة وحركة جسد متوترة تجعلانه شخصية طبيعية ومثالية بالنسبة لعالم وودي آلن (شارك أيضاً مع المخرج في فيلم "إلى روما مع الحب"). وهو ممثل بنى اسمه في عالم السينما المستقلة الأميركية قبل أن يصبح معروفاً على نطاق واسع، حين تعاون مع ديفيد فينشر في فيلم "الشبكة الاجتماعية"2010. يمتلك بوبي "جودة الغزلان في الضوء"، على حد تعبير فوني. وستيورات هي الحصة الأخرى من حظ وودي آلن فهي فتاة اللحظة الحالية بامتياز: حبيبة المراهقين والمراهقات في أنحاء العالم، بعد دورها في فيلم "الشفق"، وهي الممثلة نفسها التي نالت ثناءً نقدياً عالمياً على ذخيرتها التعبيرية في أفلام مثل "غيوم سيلس ماريا" لأوليفيه أساياس. إنها ممثلة جديرة بالملاحظة أثناء وجودها على الشاشة، ولديها وعي ذاتي بهذا من دون أن يتحول ذلك إلى أداة ابتزاز تستخدمها مثلما تفعل سكارليت يوهانسون مثلاً، سواء كان ذلك في مداعباتها للكاميرا أو في إشاحتها النظر بعيداً أو في النظر إلى الأسفل. فذلك كله يصبح أكثر فعالية، حين تقوم بعمل اتصال بصري مباشر مع المشاهد/الكاميرا.

"كافيه سوسايتي" يتطلب الكثير من ممثليه، خصوصاً في نهاية الفيلم حين يصبح الأمر متعلقاً بالصمت والحضور، في تلك الأثناء يقدم أيزنبرغ وستيوارت أداء للذكرى.

أخيراً، هناك العامل الرئيسي الثالث إلى جانب ستيوارت وآيزنبرغ: مدير التصوير المخضرم فيتوريو ستورارو، الذي جلب توهجاً مضاعفاً إلى صورة الفيلم (الضوء في مشاهد لوس أنجليس يعمل على إبراز صورة حلمية لكاليفورنيا المشمسة وينقل ببلاغة شهوانيةَ الفلتر البرتقالي المستخدم في التصوير). صور ستورارو "أكبر من الحياة"، مثلما يقول التعبير الأميركي، مثل منازل المشاهير التي يجول عليها فوني وبوبي في هوليوود. لكن رومانسيتهما صغيرة ومتواضعة، ولهذا السبب هي عرضة للمكابدة وتحمل قسوة الحياة.

"أعتقد أنني سأكون أسعد إن كنت بمقاس حياتي"، تقول فوني بينما يقفان أمام قصر الممثلة جوان كروفورد. لذا ليس من المستغرب أن تكون نيويورك هي مسرح أكثر لياليهما رومانسيةً، حيث يقومان ببعض الأشياء الحميمة: عشاء في مطعم إيطالي حيث ينضم مالك المطعم إليك ليشرب كأساً بصحبتك، وممارسة إحدى لعبات النرد (craps) في مكان ما في بروكلين، الاستماع إلى فرقة جاز تبدو وكأنها تعزف أمام بيت أحدهم، احتساء النبيذ وقت الفجر في السنترال بارك، محادثة على جسر نهري تنتهي بقُبلة.

مثل قائمة الأشياء التي تجعل الحياة تستحق أن تُعاش في "مانهاتن"، "كافيه سوسايتي" عمل رجل لا يتوقع شيئاً ولا يؤمن بشيء، فقط العمل، وبضع نكات جيدة، وملذات حميمة صغيرة تُبقى الموت بعيداً، مؤقتاً. من أجل ذلك، وبالنظر إلى كل عيوب الفيلم أيضاً: هذا فيلم جميل.


(*)"كافيه سوسايتي" عُرض مؤخراً في سينما "زاوية"-القاهرة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها