الإثنين 2016/10/24

آخر تحديث: 11:46 (بيروت)

مروان قصاب باشي: الوجه واحد والمرآة تعدده

الإثنين 2016/10/24
increase حجم الخط decrease
عن عمر ناهز 82 عاماً، رحل الفنان التشكيلي السوري مروان قصاب باشي في ألمانيا، حيث يقيم منذ العام 1975، وهو واحد من أشهر الفنانين العرب، ‏وقد تأثر بـ"التعبيرية الألمانية"، ولكن من دون طلاق مع هويته الثقافية الشرقية الدمشقية، فهو "ينتمي لنوع نادر من الفنانين الذين يؤمنون بأن الفن ليس مجرد جمال سابح في الفراغ بل هو فعل أخلاقي يربط المتعة والفرح بالحقيقة" بحسب صديقه الروائي عبد الرحمن منيف.

انتسب "مروان"، وهذا اسمه الفني المختصر، إلى كلية الآداب في جامعة دمشق ما بين عامي 1955-1957، وله مع هذه المدينة ذكرياته التي تجلت في لوحاته، يقول "كنت أرسم وأمشي في شوارع دمشق، وأتلصص مساءً من شباك مفتوح على تلك اللوحات القريبة أو البعيدة المعلقة في مرسم نصير شورى. في تلك الأيام، حيث لم يكن في دمشق كلية لتعليم الرسم". كان مروان يحلم بإتمام دراسته في باريس إلا أن العلاقات الديبلوماسية السورية مع فرنسا انقطعت بسبب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لذلك حاول السفر إلى فرنسا عن طريق ألمانيا، فوجد نفسه في برلين التي وصلها في العاشر من أيلول 1957 حاملاً بعض أعماله الدمشقية فاحتضنته المدينة التي كانت مقسمة إلى شرقية وغربية في خضم "الحرب الباردة". قبل مغادرته إلى برلين أنجز مروان في دمشق، مجموعة كبيرّة من الأعمال الفنيّة، الموزعة على الرسم والتصوير والنحت... وبين دمشق وبرلين كان عليه ان يعيش أمزجة الثقافة المتعددة، فسكن في عالمين، وإن "بطرق مختلفة جدا دون أي تناقض جلي أو انزعاج". يقول: "وصلتُ برلين في العاشر من أيلول 1957.. مرآة حساسة للعلم بين الشرق والغرب. فيها رسمتُ قصتي، وفيها وجدتُ دمشقي". تنقل رشا السلطي في مجلة "بدايات" ان مروان حين وصل الى برلين كان عضواً في "حزب البعث" وممثل الحزب في ألمانيا والنمسا وسويسرا بين الأعوام 1957 و1962... ويوضح مروان: "أثرت الاستقالة في ذلك العام بعد أن دخل أستاذي ومعلمي إلى محترفي في أحد الأيام، وقال وهو يقف ورائي عبارات بسيطة ومباشرة، إن الوقت قد حان لكي اختار ما إذا كنت أريد أن أصبح فناناً أو مناضلا سياسياً. غادر فشعرت بكلماته وكأنها تطعنني. فكرت في أنّ فنانا ناجحا سيكون أكثر فاعلية بكثير من ناشط سياسي، فقدمت استقالتي الى الحزب". عقب تخرجه وحتى العام 1970 وزع وقته بين العمل في مصنع للجلود في برلين نهاراً، والرسم ليلاً. وبقي في العاصمة الألمانية لكنه لم يغادر دمشق.

بدأ اهتمام مروان بالإنسان موضوعاً رئيساً لأعماله، يرسم أجساد الشخوص بأنماط وتعابير مختلفة. أشخاص مروان يتحسسون أنفسهم ويبحثون عن ذاتهم وبالتدريج، بدأوا يغيبون من لوحته، لصالح الرأس الذي شغل كامل مساحة اللوحة. في البداية، أخذه بكامله، ثم قصره على منطقة العينين والأنف والفم والذقن، ثم اختصره إلى عين وأنف وفم، داخلاً وخارجاً، ثم غزت الألوان بكل أطيافها ودرجاتها. على حين غرة، غادر مروان وجوهه الشبيهة بالأرض، إلى موضوع جديد هو الطبيعة الصامتة وبعدها انتقل إلى موضوع "الدمية"...

في العام 1998، عاد مروان مرة أخرى إلى وجوهه، إنما برؤية جديدة. تحوّل الوجه لديه إلى شكل طولاني، عالجه بأسلوبٍ تبقيعي. يرسم مروان عددا هائلا من الوجوه لا تشابه بينها، لكنها تتناغم كثيراً انطلاقا من عبارة "الوجه واحد والمرآة تعدده...." لابن عربي التي تعتبر من أهم مصادر الإلهام لدى الفنان مروان. ويقول الناقد العراقي فاروق يوسف "ربما لا يعرف مروان قصاب باشي أن الوجوه التي رسمها هي أكثر شهرة منه. حتى بالنسبة إلى من قلّده من الرسامين العرب فقد كانت تلك الوجوه وحدها هي ما أثار في أعماقهم رغبة الجري في أثر خطى ذلك الرسام". وكتب الناقد الألماني يورن ميركيرت عن وجوه مروان: "جميع هذه التكوينات البشرية تقف وسط فضاءٍ خاوٍ ضاغط، انسحب منه العالم الخارجي كلياً. ومع ذلك فإنها جميعها مأزومة. إنها صامتة كما خلف لوح زجاج يفصلها عن العالم الخارجي بشكل عازل".

تعرّف مروان على عبد الرحمن منيف في دمشق في الخمسينيات، ولكنهما لم يصبحا مقربين الا بعد سنوات عديدة. اسفرت علاقتهما عن عمل تعاوني الّفه منيف بعنوان "رحلة الحياة والفن" (1997)، والمتحور حول مسيرة واعمال مروان. بعد وفاة منيف في عام 2004، أعيد طبع العديد من كتبه بما فيها تلك التي تذكر أعمال مروان.

الرسائل غير المنشورة سابقاً، والتي تبادلها منيف مع مروان على مر السنين، تشهد على متانة الصداقة والتفاعل المستمر بينهما على الرغم من المسافة الجغرافية التي كانت تفصلهما. وكتب فواز طرابلسي في تقديمه لكتاب "في ادب الصداقة، مراسلات عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي" الصادر عن دار التنوير: "هذا فنٌ متعبّد لوجه…لأن مروان صوفي إنساني قضى العمر بحاله في استنطاق وجه، بل قل (الوجه). يسائله عن هوية وصفات ومعاني ومشاعر ورؤى وأحساسيس لامتناهية. والنتيجة هي (البوح)، الكلمة الأثيرة عند الفنان. فبينه وبين (الوجه) علاقة عاشق بمعشوق".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها