الأحد 2015/12/27

آخر تحديث: 12:49 (بيروت)

ذاكرة الأغاني: في السجن "سألتك عن قلبك قلتيلي بريء"

الأحد 2015/12/27
ذاكرة الأغاني: في السجن "سألتك عن قلبك قلتيلي بريء"
في النهار، يأخذ بعض سجناء غرفتنا الأغاني معهم الى خارجها، لتبدأ دورة أكبر هذه المرة
increase حجم الخط decrease

نفتح في هذا الملف ذاكرة الأغاني لدى الاشخاص وبعض المشاهير، انطلاقا من حوادث طريفة أو تجارب او سياسات أو طقوس خاصة.. وهذه الشهادة لموسيقي كان قد دخل سجن زحلة لسنوات وخرج منذ أشهر قليلة فقط. ويتركز الكلام هنا في الغناء وعلاقة الأغاني والأصوات بالسجن وبقدرتها على تغيير مسار عيش السجناء داخله...

تخرج الأغنية من فم الشاب الذي يلعب الورق في زاوية الغرفة "شفتك عالطريق ما شفت الطريق"، ثم يسحب ورقة من الأرض وينظر الى رزمة الأوراق التي في يده. يمر وقت. في الناحية الأخرى من الغرفة، حيث يحضّر بعض السجناء عشاءهم، تخرج الأغنية نفسها من فم أحدهم من دون أن ينتبه. يزيد عليها هذه المرة: "سألتك عن قلبك قلتيلي بريء". تدور الأغنية لوقت طويل بين السجناء، قبل أن تنطفئ بسبب اغلاق باب المهجع علينا في الليل. هذا ما يمنعها من الإنتقال الى غرف أخرى من السجن ويحتم موتها بيننا.

في النهار يأخذ بعض سجناء غرفتنا الأغاني معهم الى خارجها، لتبدأ دورة أكبر هذه المرة. يمدد هذا زمن عيشها الى وقت طويل يصل أحيانا الى عدة أيام، وإن كان حظ الأغنية جيدا، ربما ستخرج من السجن مع أحد أفراد الدرك أو ربما مع عامل الدكان المخول ادخال البضاعة الينا.

هنالك بعض الأغاني التي لا تتحرك من مكانها، وتنطفئ من مصدرها.
لا نعرف تحديدا من أي مكان من ذكريات الحاج يوسف تأتي أغنية "ما بيسألش عليّ أبداً" لمحمد عبد المطلب. يقولها بيننا بصوته المبحوح وهو يهز رأسه، كأنه يستمع إليها للتو "ما بيسألش عليّ أبدا ولا بتشوفو عنيّا أبدا". لا تنتقل الأغنية هذه المرة بين السجناء وتنطفئ في مكانها. لا أحد منهم يعرف تلك الأغاني القديمة وأنا الذي أحاول قدر الإمكان المحافظة على "هيبتي" بينهم، أمتنع عن غنائها بصوتي العالي وأكتفي بترداد لحنها بيني وبين نفسي.

ليلة الكهرباء
عادة، إن لم يتمكن أحد الشباب من إعالة نفسه، ينتهي به الأمر ليصبح خادماً في إحدى الغرف. هذا ما حصل مع أحمد الجولاني الذي تشبه حالته حالة العبيد في عصور سابقة. لا يحق لأحمد طبعا ان يغني بصوت مرتفع بسبب موقعه الدوني بيننا، لكنه، إن غنى، فلن تنتقل أغانيه الريفية طبعاً بين السجناء لأن أحداً لا يعرفها. لم أسمعه يغني سوى مرة واحدة وكان ذلك في الحادثة التي عرفت بيننا بـ"ليلة الكهربا".

 
في تلك الليلة الحارة من شهر آب، انقطعت الكهرباء عن غرف السجن، وبدأ السجناء في ضرب الأبواب بآلات حادة كي يسمعهم الدرك. تم اصلاح العطل الكهربائي في غرف السجن ما عدا غرفتنا. لا نعرف لماذا لم يستجب الحراس وقتها لندائنا، ظننا أنه كان بمثابة عقاب لنا على الضجة الكبيرة التي أحدثناها في السابق. كان الحر والرطوبة على أشدهما مما أجبرنا على خلع ثيابنا. وقف الجميع بثيابهم الداخلية والعرق ينز سريعا من أجسادهم، لامعا تحت أضواء "القداديح" المنتقلة أشعتها في الظلام بيننا.

بدأ الأوكسيجين بالنفاد بيننا بسبب توقف شفاطات الهواء. عدد السجناء كان في ذلك الوقت حوالي الـ25 في غرفة صغيرة نسبيا. كان الحاج يوسف الضحية الأولى، اذ غاب عن الوعي ثم لحقه بعد دقائق شاب آخر. لم نكن نعرف ماذا علينا أن نفعل وكان الجميع يصرخ بأعلى صوته من أجل المساعدة. يومها سمعت غناء خفيفاً بدأ يرتفع تدريجيا. كان الصوت آتياً من أحمد الجولاني الجالس في مكان نومه المعتاد قرب الحمام، عاصراً رأسه بين يديه وهو ينشد أغنية لم أفهم كلماتها. كان العرق ينزل من جسده النحيف، الذي بدا لي يومها كأنه هيكل عظمي لجثة متحللة، لكن صوته أتى من مكان آخر كأنه من جسد منفصل عن جسده ذلك. كان عذباً ومبتعداً عنا، نحن الخائفين حوله، وربما كان مبتعداً عن حياته السوداء، تلك التي جعلتنا نرى حياتنا جميلة أمامها.

ذكرني غناء أحمد بغنائي الخاص في النهار الذي أوقفني فيه الدرك في المخفر قبل نقلي بعد أيام الى سجن زحلة. كنت أستمع يومها الى أغنية إلهام المدفعي "يا زارع البزرنقوش"، التي كنت أعيدها مرات في السيارة قبل توقيفي. عندما أوقفت وأدخلوني غرفة صغيرة للحجز. بدأ يسألني السجناء عن سبب توقيف وأنا أنظر اليهم وأدندن في رأسي "حنة حنة حنة وجمالنا غربن وا ويلي في الشام وما جنا جنا جنا جنا ومحلات بذهب وا ويلي فوك الذهب حنة حنة حنة حنة". لم أكن أستطيع ايقاف الأغنية في رأسي، كأني لم أخرج بعد من السيارة والزمن لم ينقطع بالنسبة إليّ. عندما فرغت غرفة الحجز وبقيت وحيدا في اليوم الثاني، صرت أحاول نسيان المأزق الذي أدخلت نفسي فيه من خلال دندنة كلمات الأغنية بصوت مرتفع، ما أعطاني دفعا من الأمل الذي صرت أحاول تمديده قدر الإمكان.

سجين فتح الإسلام
بعد فشل انتفاضة سجن رومية وانتهاء حفلة التعذيب التي أعقبتها، انتقل الينا أمير مبنى الاسلاميين الذي ظهر في فيديو التعذيب المنتشر يومها في وسائل التواصل الإجتماعي. كان حال سجن زحلة في ذلك الوقت أفضل من سجن رومية بأضعاف، لم يكن "أميرنا" يتكلم كثيرا وكان يواظب على سماع القرآن بواسطة سماعات هاتفه. قبل تعرفي إليه كان سماعي للقرآن قد اقتصر على بعض المجوّدين المصريين أمثال الشيخ محمد المنشاوي والمنشد طه الفنشي وعبد الباسط عبد الصمد، أي فقط من اتبع مدرسة التجويد القرآني حصراً. لم أكن قد سمعت لمرتلين سعوديين في ذلك الوقت بسبب ارتباطهم بتيارات تخيفني. لا أعرف ان كان سبب الخوف هذا مرتبطاً بانتمائي الشيعي وحذرنا من كل ما يأتي من السعودية، لكني، على كل حال، لم أكن أمتلك خياراً آخر وقتها سوى الإستماع إلى ما سيتكرم عليّ به أميرنا الإسلامي.

يختلف ترتيل القرآن بشكل كبير عن التجويد الذي اعتدنا عليه بأصوات المؤذنين المصريين. كان أول ما أسمعني اياه هو سورة الكهف بصوت الشيخ مشاري العفاسي. استغرقت بعض الوقت قبل أن أعتاد طريقة الأداء تلك، لكني اليوم وبمقارنة بين أداء المدرستين، صرت أرى أن ترتيل العفاسي وشيوخ السعودية الآخرين أمثال أحمد العجمي وسعد الغامدي يتميز بأداء رومانسي كبير، على عكس الطريقة المصرية الجامدة، كما أن المقرئين السعوديين ينتقلون بسلاسة أكبر بين طبقات الصوت الذي يقترب أحياناً من التطريب، ومن ذلك الأداء الذي يجيده مثلاً القارئ الشيخ ياسر الدوسري الذي اعتاد أن يُبكي المصلين في أي جامع يذهب إليه. أخذني صوت المقرئين السعوديين الى عالم آخر مختلف عن أي نوع غناء كنت قد سمعته في السابق. حتى انه صار بالنسبة إلي كالإدمان الذي لم أفلت منه بعد خروجي من السجن سوى بعد أشهر، وبعدما بدأت أثير الريبة في أهلي الذين ظنوا أني قد تحولت خلال أيام سجني تلك الى إسلامي متطرف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها