الخميس 2014/09/11

آخر تحديث: 14:35 (بيروت)

التعذيب في الإسلام: تاريخ سَبَق "داعش"

الخميس 2014/09/11
التعذيب في الإسلام: تاريخ سَبَق "داعش"
لوحة للفنان السوري شاهر الزغير
increase حجم الخط decrease
خلال التسعينات من القرن الماضي، لم يجرؤ معظم الصحف العربية، حتى "الحرة" منها، على نشر خبر عن كتيب "تاريخ التعذيب في الإسلام" للكاتب العراقي هادي العلوي. كانت تتفادى ورطة هذا الموضوع الشائك والمثير للجدل، مخافة أن يهتزّ "الشارع الإسلامي" و"السلفي"، فيرفض ما يراه "تجنياً" على تاريخ الإسلام وصورته المثالية باعتباره "خير أمة". وكان أبرز مثال على الاقتراب من التاريخ الإسلامي، إهدار دم الروائي سلمان رشدي بعد رواية "آيات شيطانية"، وطعن الروائي نجيب محفوظ بسبب رواية "أولاد حارتنا". ولاحقاً، تظاهرات وأعمال العنف بعد رسوم الكاريكاتير المسيئة لنبي الإسلام... إلخ.

بقي كتيب العلوي ممنوعاً في معظم البلدان العربية إلى أن أتى طوفان الإنترنت وحطَّم جزءاً كبيراً من جدران الرقابة الغبية، إذ لجأ بعض المواقع الثقافية إلى نشر معظم كتابات العلوي عن الاغتيالات والمرأة والتصوف والتعذيب. بل ثمة أقلام عرضت تفصيلياً، الأحداث في التاريخ العربي والإسلامي. لكن ذلك لم يغيِّر شيئاً من نظرة العوام إلى ماضيهم.

أهمية كتيّب هادي العلوي عن التعذيب، في أنه يتطرّق إلى جانب معروف في كتب التراث وفي التاريخ الإسلامي، حيث ترد أخبار التعذيب كمرويات. لكن قلّما لجأ الباحثون العرب إلى قراءتها بطريقة اجتماعية فلسفية، كما فعل ميشال فوكو مع تاريخ الجنون في أوروبا. والأرجح أنه، طوال العقود الماضية، تمَّ "غض النظر" عن هذه المرويات الفظيعة خوفاً من أنياب الرقابة والتطرف. وكان كتَّاب التاريخ (الطبري وابن كثير...) يسردونها كأنها أمور نافلة وعابرة. الحكم بقطع اللسان، بحسب ما ينقل هادي العلوي، "تطوير مبكر لفن التعذيب يدلّ على السرعة التي تقدمت بها دولة الإسلام في طريق تكاملها كمؤسسة قمعية". وكان زياد ابن أبيه (مثلاً) مشرعاً لأمور عدة سارت عليها السلطة الإسلامية في ما بعد، مثل "منع التجول والقتل الكيفي، وكان يُعرف عندهم بالقتل على التهمة وعلى الظن، وقتل البريء لإخافة المذنب، وقد طبقه على فلاح خرج ليلاً للبحث عن بقرته الضائعة خلافاً لقراره منع التجول في الليل، وقتل النساء وهو غير مألوف عند العرب".

أمثلة بسيطة ينقلها هادي العلوي، وهو كان شخصية ثقافية فريدة تجمع بين الماركسية الشيوعية "الإلحادية" والصوفية الملتبسة في علاقتها بالدين. يستند في كتيّبه "الصاعق" إلى مراجع تراثية، وفيه يقدِّم صورة شنيعة عن المراحل الأموية والعباسية والحجاج بن يوسف الثقفي وزياد ابن أبيه.

كان الكتيب ليشكِّل بذرة كتاب حول أنواع العنف في العالم، لكن المؤلف اكتفى بالتركيز على مراحل معينة من التاريخ: الإسلامي (العباسيون، الأمويون) والمعاصر (هتلر).

في الزمن الداعشي، وكل ما نشهده من ذبح وبتر أعضاء، بات كتيب هادي العلوي هامشياً. لم يعد المرء يحتاج إلى كلمات لتوصيف التعذيب وقطع الرؤوس والتشميس، فالمَشاهد حاضرة بالصوت والصورة، وبأدق التفاصيل السادية، وهي في متناول الجميع. كأن دواعش اليوم يحاكون أسلافهم بطريقة أشد احترافية ووحشية، "يتلذذون" بالقتل أمام الكاميرا.

ظهَّرت داعش، بسلوكياتها الوحشية، تاريخ العنف في العالم من جديد. استعاد القراء بعضاً من ذاكرة الأمم والشعوب المليئة بالحقد والكراهية والدم، إذ تبين الوقائع أنّ أحداً لا ينجو من إثم التوحش وقطع الرؤوس. كثيرة الأمثلة في هذا المجال، فقد نشرت مواقع التواصل الاجتماعي صورة لجنديين فرنسيين يحملان رأسين لجزائريين إبان "حرب التحرير" قبل عقود، صورة تدين تاريخ فرنسا التي رفعت شعار "حرية إخاء مساواة". وسبق للباحث الفلسطيني السوري، منير العكش، أن أصدر كتاب "أميركا الإبادات الجماعية" (دار رياض الريس)، يقول فيه: "منذ أن خلقت وأنا أسمع هذا الهراء والدجل عن أن الولايات المتحدة مثال للحرية ونبراس للديموقراطية، وأن هذا البلد فريد جداً في التنور والإنسانية، وأن التاريخ البشري لم يعرف بلداً آخر يحاكيه أو يضاهيه في ذلك، وأن هذه "أمة القوانين" لا تعتدي ولا تغزو كما تفعل بلدان أخرى. إنني على يقين من أنكم سمعتم بهذا أيضاً، فهذه هي الحقيقة الرسمية في الولايات المتحدة، وهذا ما يتعلمه الأطفال في المدارس، وما تُحشى به أدمغة العامة". يضيف العكش: "حسناً إن لدي خبراً مراً أزفه لكم: هذا كذب محض". ويشرح العكش بطريقة مغالية شبه إيديولوجية تاريخ أميركا الوحشي: "إنهم قبل أن يسلبوا الهنود جهودهم في حضارة الإنسانية ويعروهم من إنسانيتهم، أسقطوا عليهم أشنع فظاعاتهم كالعنف وسلخ فروة الرأس والتمثيل بالجثث". ويورد شهادات لبعض رموز أميركا المعاصرة، مثل جورج واشنطن الذي فسَّر المفهوم الأميركي للأضرار الهامشية التي ترافق انتشار الحضارة، قائلاً: "طرد الهنود من أوطانهم بقوة السلاح لا يختلف عن طرد الوحوش المفترسة من غاباتها".

لا يقتصر التعذيب على أميركا والإسلام. يروي كتاب "تاريخ التعذيب" لبراين اينز، قصة التعذيب في تاريخ أوروبا والشرق الأقصى، ويتطرق إلى تاريخ تقنيات التعذيب واختراع الأدوات وأشكالها التي صاحبت هذا التاريخ، وهي تتراوح بين أساليب الضجيج الوحشي وبين درجات التعذيب النفسي والعقلي الفاقد للرحمة، وبين المخلعة التي تشدّ أطراف الضحية، ومسامير الأصابع التي جلبت من روسيا في القرن السابع عشر. 

ومع القرن العشرين، ظهرت أدوات وتقنيات مستحدثة، أبرزها الأسلاك الكهربائية والعقاقير الطبية، وذلك لتحطيم الضحية والتغلّب على مقاومتها.

للصين التاريخية والصين الشيوعية باع في أساليب التعذيب أيضاً، وللتاريخ الستاليني الشيوعي والتاريخ العروبي المخابراتي كذلك، من تذويب الشيوعي فرج الله الحلو بالأسيد في زمن عبد الحميد السراج، إلى إطعام المعارضين للكلاب في زمن صدام حسين.

لا تنجو حضارة أو دين، في الشرق أو الغرب، في الماضي أو المعاصر، من "خطيئة التعذيب"، وقد أصاب هادي العلوي في قوله: "كلما خضت في تاريخ هذه الهمجية الكبرى وددت لو أن البشرية لم توجد على هذه الأرض وأن الحياة بقيت عند حدود القردة العليا، وذلك لأن همجية الإنسان معززة بوجود العقل المدبر الذي يفتح أبواب الخيال الإجرامي على مصراعيها، بينما تقتصر همجية الحيوان على تمزيق الفريسة بسرعة تيسيراً لأكلها".
increase حجم الخط decrease