الأربعاء 2014/06/11

آخر تحديث: 13:31 (بيروت)

الجسد والوطن والجنوسة

الأربعاء 2014/06/11
الجسد والوطن والجنوسة
ثورة لا تؤنث لا يعوّل عليها (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
شهد ميدان التحرير من -ضمن ما شهد-، تجمعاً احتفالياً بمناسبة تنصيب السيسي رئيساً، وذلك بعد أدائه للقسم الرئاسي، وتداولت شبكات التواصل الاجتماعي، مقطعاً مصوّراً لسيدة مصرية تعرّضت لتحرّش/اغتصاب/اعتداء/انتهاك جماعي من –بعض- "المحتفلين"، إلا أن حدثاً كهذا على وحشيته لا يُعدّ استثناءً أو خروجاً عن سيرورة الجسد (المذكر والمؤنث) في مصر، وتأثره بصراع القوى، وما تنتجه تلك القوى من أنماط "خطابية" تقوم على توظيف مادي/ورمزي لذلك الجسد، وهو ما يؤكد أن القادم أسوأ.


فالجسد الإنساني المذكر و المؤنث، يخضع في السياق المصري للكثير من عمليات التوظيف/ الاستلاب/الترميز/الهندسة، وصولاً للانتهاك، انتصاراً لخطاب على آخر. فمن منّا ينسى "ست البنات" وهي الفتاة التي تمّ الاعتداء عليها فيما عُرف بأحداث مجلس الوزراء في القاهرة في فترة حكم "المجلس العسكري"، فجسدها خضع لنمطين من الانتهاك أحدهما كان مادياً مباشراً من أفراد المؤسسة العسكرية، والثاني معنوياً/رمزياً، من المنظومة الدينية و"الفلولية"، وتلك مجتمعة كانت أكبر المؤسسات التي تهندس المجتمع المصري: الدين، والعسكر، وزمرة الاقتصاد/السياسي التي بقيت في موقعها بعد موجتين ثوريتين -مستلبتين- (ناهيك أن الجسد المؤنث هو جسد خاضع لسلطة المجتمع وتحيّزه الذكوري في الأحوال غير الثورية).


وما بين الجسديّن المنتهيكن: "جسد احتفالات السيسي"، و"جسد أحداث مجلس الوزراء"، ثمة الكثير من المشاهد الرمزية التي أسّست وكثّفت عمليات الانتهاك للجسد، وإذ يخطر على بال القارئ أن المقصود هنا هو الجسد المؤنث حصراً، فذلك لبسٌ كبير، إذ علينا أن نُقرّ يأن الهوية الجنوسية/الجندرية من تذكير وتأنيث، هي مركب ثقافي-اجتماعي، وليست مسلمة نولد بها ونموت معها، إذ تخضع لعمليات بناء وهندسة وتشكيل من كيانات سلطوية في المجتمع والثقافة والاقتصاد والنفس والدين، تقوم بتشكيل الهوية الجنوسية بتفاعل الأفراد معها وبين بعضهم بعضاً؛ أمكننا حينها أن نفهم أن الجسد هو أداة تشكيل للهوية الفردية، وأن تلك الأداة يجب أن تتناسب مع مصالح السلطة التي تشكّلها، وبالتالي أمكننا تفكيك وتركيب مشاهد إدراكية سلطوية معينة قائمة على انتهاك إدراكي للجسد، قُصد بها تشكيل معنى معين وتوظيفه سياسياً:


1. "تسلم الأيادي"، الأغنية التي أذيعت بعد مذبحة "رابعة العدوية" ويمتد فيها الامتنان للـ"أيادي"، وإن كان مرتبطاً بالمذبحة، إلى دور "المؤسّسة العسكرية" في الثورة منذ بدايتها 2011، ما ضمّ أحداثاً بعينها مثل: مجلس الوزراء، الحرس الجمهوري، رابعة، ماسبيرو، مجلس الوزراء، وزارة الدفاع وغيرها، ولأن الجيش –أي جيش- هو آله حربية، ولأن الحرب هي الصيغة المتطوّرة من النشاط الفحولي الحيواني الأكثر وحشية: البقاء للذكر الأقوى (الألفا)، عن طريق أن "يفني" الجسد (الإفناء هو التذرير بالمعنى المادي و الرمزي معاً، وهو ما يضمنه مفهوم الحرب والآلة الحربية)، أمكننا أن نفهم حتى من التصنيف السياسي والثوري للضحايا/الأجساد في كل تلك المذابح، أن المقصود والمستهدف من الإفناء هو "الجسد غير المنصاع للذكر/الألفا الحربي"، ولعل وجود البعض ممن دعموا "خريطة الطريق" في السجون (والسجن نفي مادي/مكاني غير تذريري للجسد)، شاهد آخر.


2. أغنية "بشرة خير"، مثال ثانٍ على الأغنية، باعتبار أن الموسيقى والأغاني، هي نماذج تعبيرية بالمنطق الثقافي عن مخزون المعنى والقيمة و الاستهلاك لدى الشعوب.
الأغنية تقوم على "نفي" رمزي، آخر للأنثى في هذا الـ"خير" أو حتى الـ"تبشير" به. وهو ما نراه من طمسٍ لها في الدور السياسي والاجتماعي المتخيّل في خطاب الأغنية، إذ تقول: "قوم نادي ع الصعيدي، وابن اخوك البورسعيدي، والشباب الاسكندراني، اللمه دي لمة رجال".
 وعند إقحام المرأة في الفيديو، يغازل المخرج الأنثى في تصاوير شكلية لنوعيّات مختلفة من النساء (جميع أنواع المرأة كما قالها محمد مرسي ذات مرة) منهن الفلاحات ونساء المدينة والسمراوات وغير السمراوات، في حين أن الخطاب الفاعل في "بشرة" الـ"خير" المُغنّى يتحدث عن لمّة الرجال باعتبارها هي المؤدية إلى "بشرة الخير"، وهي فقط وحصريًا "لمة رجال".


 بين هذين النفيين: نفي الذكر المعادل و/أو المنافس في "تسلم الأيادي" بواسطة الآلة الحربية، و/أوالإعتقال، وبين نفي الجسد المؤنث –تحديدًا- بشكل رمزي من معنى "الخير" و"البشرى" في "بشرة خير" باعتبارها فقط "لمة رجال"، كانت الحاجة لخلق/نحت جسد/مذكر /فحل، يتأسس ذلك الجسد الأفضل/الأخيَّر/الأقوى/الألفا، عن طريق "المركزية الذكورية" فكتبت بعض الأقلام عن "الدكر" الذي يمكن أن "يكون له جواري ينكحهن"، وهيام المرأة المصرية به، أو أن يرتضي الرجال الآخرون في الوطن أن يعاشر نسائهم ("نساؤنا حبلى بنجمك")، أو يسوق له باعتباره الفحل/الراجل/"الدكر"/الألفا.


ولأن تكثيف/تعظيم صورة الجسد المذكر/الفحل/المركزي الذي تقوم عليها فكرة الوطن والدولة المركزية، كان لابد لها من مقابل موضوعي تعرف به نفسها، وإلا إنهار منطق "الأفضلية"، هو "الجسد الأنثوي"/الطرفي، فكان لابد أن يستقبل الإعلام المصري (باعتباره  منبرًا للـ"خطاب" السلطوي الذي يهندس صورة "الذكر/الفحل" في الوعي الجمعي) خبر التحرش الجماعي بفتاة التحرير في احتفالات تنصيب الذكر/الفحل، بالتندر والتفكه والتبرير باعتبار أن الشعب "مبسوطين بقى!!" (بالتعبير النصي لمذيعة قناة "التحرير" المصرية)، فهذا "الإنبساط" وإن إنتهك ماديًا ورمزيًا الجسد المؤنث/الطرف إلا أنه يظل طقس من طقوس السعادة بقوة الذكر/الفحل الألفا، وقيادته لبقية الذكور.


كل تلك الشواهد وغيرها، ليست فقط تدليلًا على إنتهاك الجسد المؤنث، وإنحطاط مكانة المرأة، بل على حالة ممأسسة وممنهجة لانتهاك الجسد الإنساني، فخضوع الجسد المؤنث لسلطة الذكر/"الدكر"/الفحل الجسدية القمعية في الفضاء العام والخاص، لهي دليل على حالة إنتهاك قَبلِيّة يمر بها الجسد الإنساني في المجتمع، مع تنامي أزمات الهوية الوجودية له بداية من الحق في التعبير عن رأيه وصولًا إلى البقاء الجسدي.


الجسد في السياق المصري كان وسيظل أداة خطاب لتشكيل الوعي، وبالتالي قيمته لا تتحدد بذاته ولكن بما تريد السلطة القمعية منحه إياه، فالتحرشات/إنتهاك الأجساد، لطالما ظلت سلاحًا في يد السلطة، فكان أداة نقد للحراك الثوري في فترة حكم الإخوان، وهو الآن مثار للضحك ومشهد سعادة بالنسبة للسلطة، وكان الجسد هو الملام عندما يواجه الدولة وبالتالي "إيه اللي وداها هناك؟!"، وكان أداة لانتهاك الثورة كما في "كشوف العذرية". 


يعيدنا ذلك إلى مقولة: "الإكتشاف الأول لحركة تحرير المرأة، خلال مسارها، سيكون أن الرجال ليسوا أحراراً"، فالجسد –أي جسد- الواقع تحت السلطة الفحولية الإستبدادية، سواء كان ذكراً أم أنثى، معرض دائمًا لانتهاك واستلاب "خطابييَّن" من السلطة لاثبات سيطرتها عليه، ضمن ثنائية مركز وطرف، وأن أي ثورة لا تؤنث لا يُعوَّل عليها.

increase حجم الخط decrease