الإثنين 2014/05/26

آخر تحديث: 00:31 (بيروت)

ريتا اليهودية.. جرح متأخر في مخيلة نضالية

الإثنين 2014/05/26
ريتا اليهودية.. جرح متأخر في مخيلة نضالية
محمود درويش و"ريتا" أيام الشباب
increase حجم الخط decrease
لم تكن المفاجأة، في فيلم المخرجة الفلسطينية ابتسام المراعنة "سجّل أنا عربي"، أنه كشف عن الهوية الحقيقية لريتا التي كتب عنها الشاعر محمود درويش أكثر من قصيدة، بل في كون جمهور عريض من قراء الشاعر لم يكن يعرف أن ريتا، التي عرفوها في شعر درويش، كما في أغنية مارسيل خليفة "بين ريتا وعيوني بندقية"، يهودية. مع أن الأمر لم يكن بحاجة إلى تنقيب، فمن أين جاءت البندقية لو لم تكن ريتا تنتمي إلى الأعداء، مثلها مثل جولييت التي تنتمي إلى أعداء عائلة روميو؟

بدا كثيرون من عشاق الشاعر وكأنهم على وشك استرجاع أسماء بناتهم اللواتي حملن اسم ريتا القصيدة، وكأنهم استُغفلوا وقد ظنّ بعضهم أن ريتا هي رفيقة الخندق، ورمز للمقاومة. نعم، إلى هذا الحد من السذاجة، أو ربما التزوير لمقاصد الشاعر وقصيدته، ولأنهم لا يستطيعون أن ينكروا وطنية الشاعر يبدو أنهم قرروا الاستقواء على قصيدته. بالإمكان العودة إلى إحدى الصحف الرسمية السورية لاكتشاف كيف تحولت ريتا إلى فتاة فلسطينية، وإلى رمز للمقاومة.

لا يحتاج الأمر إلى تحرٍّ للتأكد من هوية ريتا الاسرائيلية (لا اليهودية وحسب)، طالما أن الشاعر صرّح بذلك في مقابلاته، كما ظهرت رسائله المكتوبة باللغة العبرية إلى تمار بن عامي، وهذا هو الاسم الحقيقي لريتا، حسبما ظهر في الإعلان الترويجي لفيلم "سجّل أنا عربي". لكن لا ندري ما سيفعل حَفَظة محمود درويش النضاليين حين يدركون أن قصائده مليئة... "بالأعداء". ريتا وحدها استحوذت على قصائد ثلاث. الأولى "ريتا والبندقية" وهي الأشهر، جاءت في ديوان "آخر الليل" (1967). ثم "ريتا أحبيني" في ديوان "العصافير تموت في الجليل" (1969) وصولاً إلى قصيدته المطولة "شتاء ريتا الطويل" في ديوان "أحد عشر كوكباً" (1993). وقد كان للجنود والسجانين حصتهم من القصيدة، خصوصاً في "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (1967). ولطالما أثارت إشارات من قصائد الشاعر الراحل مناهضي التطبيع، فشنّوا حملات وأشعلوا حرائق لم يكن سهلاً إخمادها.

حسب رواية تمار بن عامي، فإن درويش تعرّف إليها في حفلة لشبيبة "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" الذي كان كلاهما ينتمي إليه، وقد وقع الشاب العشريني آنذاك في غرامها بعد رقصة قدمتْها. بن عامي، التي كانت في السابعة عشرة من عمرها عند لقائها بدرويش، عرضت رسائل متبادلة بينهما مكتوبة بالعبرية. تمار حسمت أمرها في ما بعد، وأصبحت جندية في سلاح البحرية الاسرائيلية، وكانت تلك اللحظة هي الفاصلة في قصة الحب. لقد اختارت تمار الانحياز لرواية أهلها، مثلما انحاز درويش إلى حكاية شعبه.

لا يبدو من قصة الحب الواقعية تلك، أو ما ظهر منها حتى الآن، أنها كانت قصة مجنونة، أو حكاية حب عاصف. ولا تشي الرسائل بعاشق استثنائي (إن كانت ترجمة الرسائل إلى العربية أمينة)، حتى أنها لا تليق أدبياً بموهبة درويش الاستثنائية كناثر جاء نثره أحياناً أعذب من شعره. بدت ريتا وكأنها ضرورة شعرية، لو لم تأت في الواقع فتاة يهودية لاخترعها الشاعر. كان لا بدّ لشاعر مغامر هائل كدرويش أن يختبر هذا التشابك الإنساني مع الأعداء. فما بالك أن الشاعر تعرّض بالفعل لقصة حب وسجن ونفي.

محبو الشاعر صدموا حتى في صورة "ريتا" الواقعية. كان هذا سيحدث أياً كانت الصورة، فالمخيلة لن يرضيها أي شيء. لقد أرادوا لريتا الواقعية أن تكون بعيون عسلية كما في القصيدة، وأن تتمكن على الفور من إشعال النار في الدم، والأعراس والأعياد في الفم والشرايين.

محمود درويش لم يكن لمحبيه شاعراً وحسب، لقد أراده بعضُهم زعيماً، ممثلاً ورمزاً ثقافياً، وربما ناطقاً باسم القبيلة، لذلك حُفظت قصائده كما لو أنها نوع من الحداء. إنه غالباً شاعر مسموع لا مقروء، أراد الناس أن ينتصروا به، لا أن يقرأوه. ألذلك هو شعبي إلى هذا الحد؟ وهل ستجعله قراءة أعمق، شاعراً نخبوياً وحسب، حين ينفضّ عن القصيدة أولئك الذين ظنوا أن ريتا هي رفيقة الخندق، المقاتلة، لا العدو؟



increase حجم الخط decrease