الجمعة 2014/03/28

آخر تحديث: 22:01 (بيروت)

أجساد النساء... حدود الدول

الجمعة 2014/03/28
أجساد النساء... حدود الدول
من عروض اليوم العالمي للمرأة في الهند (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
أصبحن الآن عكس هيلانة، الشخصية النسائيّة الأسطوريّة في حرب طروادة وملاحمها الشهيرة. إنّهن الآن لا يُخطفن ولا تُرسَم مصائرهن بأيدي الرجال الأقوياء. على عكس هيلانة، باتت أجسادهن حدوداً خفيّة للدول المعاصرة  (لنقُل أنها "حدود رمزيّة"، باستعارة من مقولة المفكر الفرنسي بورديو عن العنف الرمزي). بل إنها في صلب توازنات القوى التي ترسم حدودها خارجياً، وتقرّر توازناتها داخلياً. لننظر إلى حضورهن الآن في الأزمة السياسيّة الأشد إشتعالاً والتي ينظر إليها باعتبارها نقطة لرسم توازنات وخرائط في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع. إنهن الآن: يوليا تيموشينكو، فرقة "بوسي رايوت" الروسية، فرقة "فيمن" (لمَ لا؟)، أنجيلا ميركل، ولينا كاباينا. وفي خلفية المشهد عينه، إذا وسّعنا دائرة الرؤية من الزاوية نفسها، سنرى حشوداً هائلة من النساء، من الهند المحتفلة بيوم المرأة عبر تمرّد أجساد النساء على ساري الخضوع للذكور ببذلات الكاراتيه المتحديّة للاغتصاب في الشوارع، مروراً بأنجيلينا جولي ونشاطها ضد الإفلات من العقوبة على اغتصاب النساء في الحروب، وربما لا تنتهي عند رفض رئيسة البرازيل اليساريّة تيلما روسيف لتنميط بلادها في صور أجساد كرنفال ريو دي جانيرو التي لا تخلو من امتهان ذكوري لجسد المرأة عبر النظر إليه باعتباره مجرد حضور شهواني محض.
 
هل تبدو الكلمات مبالِغَة، بمعنى الانحياز المقصود لصالح المرأة؟ ربما، لكنها بقصد القول أن النساء ما زلن قيد معاناة هائلة. ليست معاناة النساء أمراً جديداً، ولا نضالهن للمساواة ولتحقيق أنوثتهن بجديد أيضاً. ربما الجديد هو أن هذا الصراع الهائل الذي تنهض به النساء، بات في قلب معادلات السياسة، بعدما رسخ نفسه في قلب معادلات الثقافة والمجتمع.
 
"بوسي رايوت": الديكتاتورية كاحتلال
لنعد إلى أوكرانيا. بدأت الأزمة سياسيّاً فيما أسدل الستار على دورة "سوتشي" للألعاب الشتويّة. واستبق الجسد النسوي، بل كان أقرب إلى النبؤة، التمدّد الروسي في خريطة الجغرافيا السياسية. بل كانت شفاههن أول من نطق بكلمة "احتلال"، قبل أن تنفجر تلك الكلمة ومرادفاتها في ساحة كييف. ففي غمار دورة "سوتشي"، تظاهرت فرقة "بوسي رايوت" محتجة على قسوة القبضة الأمنية على المدينة. وربطت الفرقة بين ديكتاتورية نظام فلاديمير بوتين ومصادرة إرادة الشعوب، عندما وصفت القبضة الحديدية الروسية في "سوتشي" بأنها احتلال. وعلى غرار صورة تكاد تكون مقتبسة من قواميس التحرّر، تعرضّت نساء الفرقة، التي ثابرت على معارضة النظام البوليسي لبوتين منذ 2011، للضرب بالسياط، بل إن بعضهن تقنّع (على طريقة مناضلي حركة "توباماروس" القديمة في ستينات القرن الماضي)، تحوّطاً لتشويه وجوههن بأيدي البوليس و"أنصاره" أو لنقُل..."شبيحته".

واستطراداً، تنتمي حركة "بوسي رايوت" إلى حركة الـ"بانك" التي قادت حركات التمرّد الشبابيّة، في الشوارع والموسيقى والأزياء، خلال ثمانينات القرن الماضي، خصوصاً ضد حكم رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر وحربها في جزر الفوكلاند. تستمر المفارقة، في أن نظام بوتين، استخدم التشبيه مع حرب الفوكلاند الثاتشرية في "تبرير" حربه في جزر القرم. وتستكمل المفارقة عينها في استخدام وصف المرأة الحديديّة لثاتشر، والرجل الحديدي لبوتين! 
ثمة حضور آخر لجسد المرأة في دورة "سوتشي" تمثّل في بطلة الجمباز الإيقاعي لينا كاباينا التي يروّج بأنها عشيقة بوتين. بدت كاباينا كأنها تستحضر تاريخاً بات، بالتعريف، رجعيّاً في الوعي الحضاري للنساء والرجال. إنه تاريخ الخدينة والخليلة الجنسية والعشيقة السرية ومرادفات تظهير المرأة بوصفها تآمراً، لا حباً وعشقاً معلناً، ومحط انتصار الرجل في المجتمع. ربما هو ما تلخصّه اللغة العربية في كلمة "محظية"، بمعنى أن حظوتها تأتي من كونها تتلقى ما يرغب الرجل- السيد بأن تناله، من دون أن يرفعها إلى مرتبة التساوي معه، ولو في زواج يكون هو فيه متفوّقاً. في الذهن، الرفض الفرنسي الواسع (نساءً ورجالاً) لأن يتّخذ الرئيس اليساري فرانسوا هولاند عشيقة سريّة تعيد السياسة إلى زمن محظيات الملوك وعشيقاتهن السريّات ومحظياتهن الفاتنات. لم تقبل فرنسا العودة الى زمن الامتلاك الذكوري الواسع للنساء، أجساداً ومصائر.
 
رفضاً لتنميط شهواني
في دورة "سوتشي" برز تقاطع النسوية مع مناهضة الاضطهاد، بمعنى كون النسوية مساحة للنهوض بالحقوق الإنسانيّة. فمع تظاهرة "بوسي رايوت"، جاء قرار عدم مقاطعة الدول لدورة "سوتشي" البارالمبيّة للمعوّقين. ولم تتردد فرنسا في القول بأن هناك بشراً بذلوا جهوداً يجب أن تحترم. وبذا، تخطّت الأجساد المقاومة للقهر والقمع والتهميش، حدود السياسة وحروبها.
 
800px-Pussy_Riot_-_Denis_Bochkarev_5-(2).jpg
  فرقة "بوسي رايوت" الروسية
ولعل في الجسد المعوّق ما يردّ إلى المرأة الرائعة يوليا تيموشنكو، التي طافت بكرسي مدولب أرجاء أوكرانيا، لاستنهاض الهمم الوطنية. وأعاد الجسد النسوي المقاوم للإعاقة البدنية، التقاطع الذي ظهر في دورة "سوتشي" البارالمبية، بما لا يقل عن استعادته للروائح العابقة لـ"ثورة البنفسج" في أوكرانيا. ولا يغيب عن البال أن تلك الثورة أطلقت مسارات متنوّعة، منها تأسيس حركة "فيمن" الشهيرة (العام 2008 على يد آنا هوتسل)، والتي سرعان ما اتّخذت أبعاداً عالميّة. ومع "الربيع العربي"، راج التشبيه مع "ثورة البنفسج". ولعل الأمر وصل إحدى ذُراه في تظاهرة نساء "فيمن" في تونس، رغم أنه تحرّك لم يكن موفّقاً تماماً، بمعانٍ كثيرة أيضاً.
 
وقبيل الحدث الأوكراني مباشرة، احتجّت الرئيسة البرازيلية تيلما روسيف، على إعلان تلفزيوني أميركي يربط البرازيل بصورة راقصات "سامبا" شبه عاريات في كرنفال "ريو" الشهير. ورفضت البرازيل رسميّاً أن تُختزل البلاد ونساؤها في محض تظاهرة شهوانية منفلتة، مصرّة على أن الأمر يتضمّن تنميطاً يلامس العنصرية. 
 
ضمن المدى الزمني للحدث الأوكراني، جاء يوم المرأة. نهضت نساء الهند ضد تكرار الاغتصاب الجماعي، في فعاليّات شملت استعراضاً بالكاراتية، كأنما لإعلان نهاية زمن الاستقواء الذكوري على المرأة، حتى بالعضلات العارية. ولا تغيب عن البال تظاهرة نساء الهند قبل عامين، بالملابس المكشوفة، رفضاً لفكرة تافهة تبرر الاغتصاب بظهور هذا الجزء أو ذاك من الجسد.
 
لن ينطوي موضوع الاغتصاب بسهولة هذا العام، خصوصاً الاغتصاب المستخدم كسلاح في الحروب (على طريقة شبيحة الأسد وأنصار الديكتاتور السابق العقيد معمر القذافي). فبعد أسابيع قليلة، تحديداً في حزيران المقبل، تعقد قمة لمقاومة اغتصاب النساء في لندن. وتواضع وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ أمام أنجيلينا جولي – الجسد المناضل نسويّاً، معلناً أنه يتقاسم رئاسة تلك القمة معها. جاء التصريح في سياق تلقيه جائزة 2014 للنساء والسلام والأمن، من يد وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون. ولم يأنف الوزير من إعلان فيلم أنجيلينا جولي "في بلد الدم والعسل" (2011)، والذي تناول الاغتصاب في خضم حرب البوسنة، كعمل أدى دوراً أساسيّاً في التوصل الى قمة مقاومة الاغتصاب المقبلة في لندن. وللحديث صلة..
 
increase حجم الخط decrease