الخميس 2014/12/18

آخر تحديث: 14:19 (بيروت)

الباحث محمد الجاروش.. عن "الليالي" والجنس العربي والتراث

الخميس 2014/12/18
increase حجم الخط decrease
محمد الجاروش باحث ومترجم برازيلي من أصل عربي - لبناني. تعلم وعمل في السعودية والعراق وليبيا ومصر. ترجم إلى البرتغالية: "كليلة ودمنة" لابن المقفّع، وألف ليلة وليلة (4 مجلدات) ومئة ليلة وليلة والأسد والغواص والنمر والثعلب لسهل بن هارون، والآن يترجم "طوق الحمامة" لابن حزم الاندلسي، وبعده "البخلاء" للجاحظ. بالعربية، أشرف على كتاب "الليالي العربية المزورة" وحقق متن مخطوطة تراثية سماها "عاشق المرحومة وقصص أخرى"(منشورات الجمل).
وفي مناسبة اليوم العالمي للغة العربية، والذي يصادف اليوم 18 كانون الأول/ديسمبر، أجرت معه "المدن" هذا الحوار..


- من أين بدأ اهتمامك بالقصص العربية التراثية أنت المهاجر في البرازيل؟

* لست مهاجراً بل أنا من مواليد البرازيل. أسرتي هي المهاجرة وقد جاءت من لبنان، من سهل البقاع تحديدا. لم أتعلّم اللغة العربية إلا بعد الثامنة عشر من عمري، ذلك أي في العام 1981 أُعطيت منحة – أنا وعدد من أبناء المهاجرين – من جامعة في السعودية، حيث التحقت بشعبة اللغة العربية هناك، قسم تعليم اللغة لغير الناطقين بها. لم أكن أعرف آنذاك أنها "جامعة إسلامية". وبالمناسبة، لم أكن أعرف شيئاً تقريباً عن العرب ولا عن الإسلام. ولم يكن الأمر يهمني آنذاك. كنت مناضلاً في حركة يسارية تروتسكية في البرازيل وكل ما كنتُ أردده حينها – وهذه كانت الفكرة النمطية السائدة في الأوساط اليسارية – هو أن العالم العربي والإسلامي متخلف للغاية وبحاجة جذرية إلى ثورة شاملة لتدمير كل ما هو ثابت هناك، لا غير. وحسبما أتذكر، كان الدافع الأساسي لديّ لقبول المنحة، من جهة، الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي كنا نواجهها في البرازيل، ومن جهة أخرى إحساس ما بالمغامرة. بقيت سنة في السعودية – في المدينة – لكني لم أتأقلم، وبما أني لم أكن متعوداً على الإبتعاد عن الأسرة، واجهت الاكتئاب للمرة الأولى في حياتي، لدرجة أني فكرت بأن أرمي بنفسي من سطح العمارة التي كنت أسكنها، ولم أجد لشفاء هذا الإكتئاب إلا مرارة الصبر.
وتزامناً مع هذا بدأت أفهم اللغة وأهتم بالحضارة العربية-الإسلامية.  وكان الأدب هو محور إهتمامي الأساسي بالثقافة العربية. عند عودتي إلى البرازيل باشرت تعلّم اللغة العربية بمفردي، من خلال كتب جلبتها معي وأخرى اقتنيتها هنا. ثم دخلت جامعة ساو باولو في كلية الآداب، لدراسة الأدب البرازيلي واخترت العربية لغةً أجنبيةً. وسرعان ما تأكدت من أن ليس في البرازيل أي معرفة جدية – شعباً ونخبة ومؤسسات – عن العرب والإسلام، فالجهل بالموضوع يكاد يكون كاملاً وقاتماً – بالرغم من تواجد جالية عربية (لبنانية-سورية) كبيرة جداً، لأن معظمهم من المسيحيين الذين، مع اندماجهم السريع نسبياً في النخبة الإجتماعية البرازيلية بسبب مقدرتهم الفائقة على العمل والإنجاز، أقول انهم تأثروا، بشكل أو بآخر، بالكوارث التي كانت تحصل في لبنان، ما دفعهم إلى الإبتعاد عن فكرة العروبة، ناهيك عن الإسلام، الذي لم يكن لهم أصلا أي تماهٍ معه. وأما المسلمون منهم، فكانت غالبيتهم الساحقة مكونة من الفلاحين الأمّيين الذين لا يُنتظر منهم أكثر من الضروب المتنوعة من الحماقة والسخافة التي قد اعتدنا عليها منذ زمن، والتي زاد منها إحساسهم بالغربة والإبتعاد عن الأصول الخ، أضف إلى هذا، التفرقة التي عانوا منها لأسباب دينية، وإن سلمنا بأن هذه التفرقة مسوغة تاريخياً، نتيجة للعداوة والحروب بين المسيحيين والمسلمين في شبه الجزيرة الايبيرية، والتي جُلبت إلى أميركا الجنوبية.
وإذا ما قارنت بين حال الجالية المسيحية والجالية الإسلامية تجد فروقا واضحة اجتماعية وثقافية، فالجالية الاولى مندمجة اليوم تماماً في المجتمع البرازيلي وزودته بشخصيات بارزة من المثقفين ورجال الاعمال والسياسيين والاطباء الماهرين الخ (ولا احد يذكر، على فكرة، انهم "شرقيون")، بينما لم تتبرع الجالية الثانية بأي شيء يذكر، ما عدا، ربما، التجارة، و"يا دوبك". على أي حال، فإن هذا الغياب، أي غياب المعرفة بالعالم العربي- الإسلامي، فتح الطريق أمامي للعمل في الموضوع. وبعد تخرجي في الجامعة ودخولي الدراسات العليا في الأدب البرازيلي، نجحت في مسابقة في الجامعة وعُينت أخيرا العام 1992 مدرساً في شعبة اللغة العربية في قسم اللغات الشرقية، وحينها بدأت بحوثي في النثر العربي التراثي.

- ما الفروق بين نسخة "ألف ليلة وليلة" التي ترجمتها إلى البرتغالية والنسخة المتداولة في العالم العربي؟

* لا يمكن أن يقال أنني ترجمت "نسخة" لألف ليلة وليلة. لكن دعني أبدأ من البداية. أول اطلاعي على ألف ليلة وليلة، كان من خلال نسخة مصرية اشتريتها في السعودية: كانت في مجلدين بإعداد سيء ولوحات غير لطيفة ونمطية جد. وأول ما لفت انتباهي – أنا المبتدئ بتعلّم العربية – هو عدم تماسك النص. في ما بعد، اكتشفت أن المسؤول عن الاعداد تلاعب كما شاء بالمتن، مما هو ممارسة عادية بالنسبة إلى كتاب الف ليلة وليلة – وليس فقط له، للأسف. بما أني كنت أقرأ عن النثر، اتجه اهتمامي إلى ألف ليلة وليلة بشكل يكاد أن يكون طبيعيا، فشرعت في القراءات حول الموضوع. وتتابعت بين يدي الطبعات، منها طبعة بولاق الأولى الصارة العام 1835 بتصحيح عبد الرحمن الصفتي الشرقاوي، ثم طبعة كالكتا الثانية، الصادرة باربعة مجلدات بين 1839 و1842 بمراجعة عدد من المثقفين الهنود المسلمين تحت إشراف "المسطر" وليم حي مكناطن، ثم طبعة برسلاو الصادرة بإثني عشر مجلدا بين 1825 و1843 تحت إشراف مكسيميليانوس بن هابخط ثم هينرخ ارثوبيوس بن فلايشر بعد وفاته، ثم طبعة بيروت الصادرة في 1889 بثمانية مجلدات تحت إشراف أنطون الصالحاني، ثم أخيراً الطبعة الصادرة في ليدن بتحقيق محسن مهدي سنة 1984. ولا تخلو طبعة من هذه الطبعات من مشاكل ومآخذ عليها. طبعة بولاق الأولى – التي ينسب الناشرون العرب عموما تصحيحها إلى محمد قطة العدوي، وهذا خطأ، لأن العدوي لم يراجع إلا طبعة بولاق الثانية، الصادرة سنة 1862، والتي لم يكلف نفسه كثيراً بخدمتها، بل اكتفى بأشياء بسيطة – تعاني من مشاكل كثيرة في متنها، نتيجة، كما لاحظ محسن مهدي، لاسقاط أوراق كاملة من المخطوط عند عملية الطباعة، وكذلك للإهمال في المراجعة. ومع كل هذا ما زالت هي أفضل طبعات الكتاب، وعنها أخذ وياخذ الناشرون العرب في أغلب الأحيان عندما يعيدون نشر الكتاب.
وفي حديث الملك يونان والحكيم رويان (والصيغة الأصح للإسم هي دوبان) نقطة طريفة هي أن، على عكس ما يحدث في جميع المتون الأخرى، الحكيم لم يمت، ولا ندري إن كان هذا سببه تدخل المصحح أو سقوط بعض الأسطر، على أي حال فإن النص كما هو يوحي بأن الحكيم نجا، على عكس كل الطبعات والمتون الأخرى. أما طبعة كالكتا الثانية فإنها قريبة – أو قل من عائلة طبعة بولاق نفسها، والخلاف بينها يكمن في أمرين. الأول هو أن المصححين قاموا بعملهم بطريقة أكثر كفاءة من زميلهم في مصر. وثانياً، أضافوا إلى المتن قصصاً لم تكن فيه أصلاً. طبعة برسلاو حالة فريدة تتطلب بحوثاً خاصة، بالرغم من الأحكام الصارمة التي أبداها دارسون مميزون مثل المستشرق الاسكتلندي ماكدونالد ومحسن مهدي، باتهامهما ناشرها هابخط بالتزوير لا غير، لأنه، على حد قولهما، لفّق متناً لم يكن له، في الواقع، وجود، بمعنى أنه إدّعي أن طبعته معتمدة على مخطوطة تونسية مزعومة أُكتشف في ما بعد أنها ليس أكثر من أوراق نقلها مساعده، وهو يهودي تونسي أسمه مردخاي ابن النجار، عن مخطوطات كانت لديه في تونس وفي اماكن اخرى ربما. بقيت طبعة محسن مهدي، عالية الجودة، مع أنها تقتصر على ما أسماه هو، على غرار التسمية التي رسخها مستشرقون من طراز دي ساسي وزوتنبرغ وماكدونالد، بالـ"فرع الشامي" للكتاب، وهو فرع لم يكتمل فيه، بمعنى أنه لم يصل إلى ألف ليلة وليلة معدودة، بل إلى 282 ليلة، لأسباب أخفاها التاريخ، من جملة ما أخفاه.
وجلّ إهتمام مهدي، أو قُل هاجسه الأساسي، هو الإقتراب من أقدم صيغة للكتاب وصلت إلينا، وقد تكون هذه الصيغة الأقدم عراقية، لأن للكتاب ثلاث مراحل على الأقل، الأولى فارسية كما نعلم من خلال "فهرست" ابن النديم و"مروج الذهب" للمسعودي، وبها كان عنوان الكتاب ما معناه بالعربية "ألف خرافة" أو "ألف أسطورة"، ثم الترجمة العربية الأولى لهذا المصنَّف الفارسي والتي سميت "ألف ليلة"، حسب الوثيقة الفريدة التي اكتشفتها ونشرتها في 1948 الباحثة العراقية نبيهة عبود. ويبدو، من خلال السطور القليلة التي تقرأ في هذه الوثيقة، أن الكتاب كان على شاكلة كتب أخرى ذات أصل هندي دخلت الأدب العربي والثقافة العربية عن طريق الثقافة الفارسية، مثل كليلة ودمنة والوزراء السبعة. والمرحلة الثالثة، ان كانت فرضية الباحثين صحيحة، هي التي أخذ فيها الكتاب شكله الذي نعرفه عليه اليوم. ولا أذكر هذه التفاصيل لكي أبرّر إختياري الشخصي للترجمة: فضلت استعمال بعض المخطوطات، وذلك حسب منهج انتهجته، وهو تفضيل الأقدم منها. وأقدم مخطوطة لألف ليلة وليلة هي التي نسخت في القرن الخامس عشر الميلادي وكانت ملكا للمستشرق الفرنسي انطوان جالان، الذي نشرت ترجمته للكتاب في أوائل القرن الثامن عشر. وتحوي هذه المخطوطة، حسب تقدير أغلبية الباحثين، أفضل متن للكتاب، مع أنها غير كاملة، ولم تتضمن إلا 282 ليلة، وتعتبر خير مثيل للفرع الشامي. كان تاريخ نسخها موضع نقاش بين الباحثين، فكانت التقديرات تتراوح ما بين القرن الثاني عشر الميلادي والسادس عشر، حتى جاء المستشرق الألماني هـ. جروتزفيلد وأثبت أن العملة المذكورة تحت اسم "أشرفي" في الليلة 133، في حكاية الشاب الموصلي والصبية المذبوحة، لا يمكن إلا أن تعود إلى فترة السلطان المملوكي الأشرف سيف الدين برسباي، الذي حكم بين 1422 و1437، وليس إلى فترة الملك الأشرف خليل بن قلاوون، الذي حكم بين 1290 و1293، على عكس فرضية محسن مهدي.
على أي حال، فاني أخترت استعمال هذه المخطوطة أولاً (مع اللجوء إلى تحقيق محسن مهدي، لأن قراءتها في بعض الصفحات صبعة جداً)، ثم استعمال مخطوطات أخرى قديمة، وإليك التفاصيل: في المجلدين الاول والثاني اكتفيت، كما اشرت، بالمخطوطة 3609/3610/3611 عربي المودعة في المكتبة الوطنية في باريس واستعنت بالمخطوطة 552 بودلي شرقي المودعة بأكسفورد لاتمام ترجمة قصة قمر الزمان وبدور، كما استعنت، للمقارنة، بطعبة محسن مهدي وببعض المخطوطات الأخرى، منها 39 غايانغوص، المودعة بالاكاديمية الملكية التاريخية في مدريد، وبطبعة هانس وير لكتاب الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة، وهو مجموعة قصصية قديمة استقى منها مؤلف ألف ليلة وليلة. ولترجمة المجلد الثالث استخدمت المخطوطات 3612 و3615 عربي (باريس) و646 عربي (مكتبة جون رايلندز بمانتشستر). ولترجمة المجلد الرابع استعملت نشرة زوتنبرغ لقصة علاء الدين ونشرة ماكدونالد لقصة علي بابا، والمخطوطات 554 بودلي شرقي (اوكسفورد) و3612 و3619 و3658 عربي (باريس) والجزء الاخير من طبعة برسلاو، بالإضافة الى المخطوطة 13523ز (دار الكتب الصرية) وطبعتي بولاق الاولى وكالكتا الثانية للمقارنة.
وكان غرضي الرئيس إعطاء القارئ البرازيلي فكرة عن تنوع مواضيع الكتاب وتداخل الفترات الزمنية التي تكوّن فيها، لإثبات غنى الثقافة المنتجة لهذه المنجز الإبداعي الرائع. ومضامين الحكايات المختارة تتراوح ما بين الإباحي لحد السادو-مازوخية والقصص الديني ومرايا الامراء الخ. وأظن أنني نجحت في مخططي هذا إلى حد ما، لأن للكتاب، بمجلداته الأربع، 16 طبعة، وأخيراً نُشرت المجموعة بعلبة جميلة تضم المجلدات كلها، وحظيت الترجمة بحكم إيجابي للغاية وفازت بثلاث جوائز أدبية.

- من خلال دراساتك الأدب البرازيلي، هل ثمة تأثير لألف ليلة وليلة في هذا الأدب؟

* ليس بطريقة مباشرة، بمعنى أنه لا روائيين وشعراء برازيليين قرأوا الكتاب بالعربية، ومن المؤكد أن البعض منهم قرأه من خلال ترجمات فرنسية أو إنكليزية. من الطريف أن ماشادو دي اسيس، وهو من أكبر الكتاب البرازيليين، كتب مقدمة لترجمة برازيلية لبعض قصص ألف ليلة موجهة للأطفال أُنجزت عن طريق ترجمة المانية قام بها أديب برازيلي من أصل ألماني، وتحدّث في هذه المقدمة، بشكل سريع، عن أهمية الكتاب. وكذلك توجد روائية أسمها نيليدا بينيون، عضو في الأكاديمية البرازيلية للأدب، لها رواية مستوحاة من ألف ليلة، عنوانها "أصوات الصحراء"، لا أحبها ولا أرى فيها قيمة أدبية تذكر.
ويجب ألا ننسى، في طبيعة الحال، الروائي ميلتون حاطوم، الذي يتشرّب من مناهل ألف ليلة في كل ما يكتبه، وبشكل واضح في روايته الأولى "رواية شرق ما"، حيث تعدد الأصوات الساردة وبعض عناصر الحبكة القصصية تذكّر بألف ليلة وليلة. وكذلك روائي مرموق آخر هو رضوان نصار، الذي يوظّف قصة موجودة في ألف ليلة في روايته "الفلاحة القديمة"، والبيرتو موسى، في روايته الجميلة "لغز قاف". ذكرت متعمداً ثلاثة كتاب معاصرين من أصل عربي، وهناك كثيرون من الكتّاب والكاتبات، خاصة المعاصرون منهم، يستلهمون ألف ليلة، محبة بها وبحثا عن مصادر مختلفة وغير مركزية (أقصد المركزية الشمالية) لأعمالهم. والحقيقة أن ألف ليلة وليلة منجز ابداعي عالمي أعطى الكثير إلى الفنون بشكل عام (السينما والمسرح والفنون التشكيلية الخ) والأدب بشكل خاص. الفنون مدينة الكثير لهذا الكتاب الرائع، بغض النظر عن تخرصات الحمقى من المثقفين والمثقفات العرب وغير العرب. 

- أصدرت كتاباً مميزاً وهو "الليالي العربية المزورة"، برأيك هل يمكن إعتبار أن ألف ليلة وليلة كلها "مزورة" بمعنى من المعاني، أولاً لأنها الكتاب الأشهر الذي لا يحمل إسم مؤلف له، وثانياً لأنها نقلت من ثقافة إلى ثقافة إلى ثقافات، وكل ثقافة تطبعها بطابعها، فإما تزيد عليها أو تحذف منها، وبالتالي أصبحت أسطورة مكتوبة؟

* بداية، عليّ أن أعترف بأن كل الفضل في نشر الكتاب يعود إلى صديقي خالد المعالي. حتى العنوان!!! أما فكرة التزوير فهي، إن طبقت على نصوص وسرديات قديمة، تصبح مفارقة تاريخية، لأنها تنطلق من فكرة الإبتكار، وهذا الأمر لم يكن مطروحاً آنذك، على الأقلّ في ألف ليلة وليلة. وأظن أن المقصود بهذا العنوان في الكتاب المشار إليه هنا، هو أن الحكايتين التي يحويهما، أي علي بابا وعلاء الدين، لم تكتبا أصلاً بالعربية. ويقول أكثر من باحث أنهما من "ابتكار" انطوان جالان. لكن الكثير من عناصرهما مستوحاة من الثقافة العربية الإسلامية. وهنا يضعنا الأمر أمام معضلة: إذا قارنّا النص العربي الذي كان موجوداً لدى جالان وما ترجمه، سنلاحظ أن العملية لا يمكن أن تعتبر، بأي مقياس معاصر كان، "ترجمة"، بل تكييفاً، في أحسن تقدير.
لو قارنت بعض الحكايات في مصدرها العربي بنص جالان سيصعب عليك أن تصدق أنك أمام "ترجمة". ونعرف أن جالان إدعى في مذكراته أنه سمع في باريس بعض الحكايات (ومنها علي بابا وعلاء الدين) من ماروني حلبي أسمه حنا دياب. وحتى إن سلمنا بأن هذا ما جرى بالفعل، فعلينا أن نعترف بأن تلك الحكايات لم تكن، إذن، ضمن ألف ليلة وليلة، بل جلبت من مصادر أخرى لم نهتدِ بعد إليها.
وإن كان جالان فعل ما فعل من تكييف حكايات وقصص كانت مكتوبة أمامه، فماذا تظن أنه قد يفعل بحكايات سمعها لا نعرف بأي لغة؟ وعلى أي حال، من الضروري أن نعترف بالتداول العالمي لهذه الحكايات وتيماتها، وتجولها بين الثقافات المحتكة بعضها ببعض. في العام 1998 حاولت الباحثة الفنلندية آنيا هانش، أن تثبت بحجج بنيوية أن قصة علاء الدين لا يمكن إلا أن تكون "أوروبية". ثم في 1999 حاول المستشرق الإسرائيلي، يوسف سدان، أن يثبت العكس، أي أن الحكاية ومخيلتها وحبكتها عربية محضة. وقد يستخلص من هذا أن لموضوع الأصالة أهمية ثانوية، والمهم، كما قلتَ، هو تنقله من ثقافة إلى أخرى، وإن كان للعرب فضل "الإبتكار" أو قل "التوظيف الإبتكاري"، إن صح التعبير.

- من خلال تقديمك لـ"الليالي العربية المزورة" نلاحظ أن المحقق محسن مهدي يخرج باعتقاد لا يختلف عن إعتقاد القاص بورخيس الحكائي، وملخصه أن الليالي نص مفتوح، أي أنه قابل لأن يتناسل إلى ما لا نهاية له من الحكايات. هل تؤيد هذا التفكير؟ وماذا عن حضور ألف ليلة وليلة في الأدب الحديث والموسيقى والسينما؟

* فكرة النص اللامتناهي جذابة، لكن علينا أن نتجنب المفارقة التاريخية عندما نتحدث عن اللانهائية هذه. بدايةً، يمكننا أن نخمن أن هناك فكرة تسود في ألف ليلة وليلة، وهي إثبات، من خلال عِبر القصص التي يجب ان نستشهد بها، أن عدالة الحكام أمر لا يحصل إلا من خلال أنظمة تقوم بتدبير ذلك. أما ما لا نهاية له من الحكايات، فإنها فكرة قد تستخلص من بنية الكتاب، أي من هيكله المجرد. ونحن المعاصرين نقوم بهذه العملية، أي عملية فصل المحتوى عن الشكل. ولكن هذا الهيكل هو الذي غذّا المخيلة المعاصرة، ونجد صداه في السينما، على سبيل المثال، وفي كل السرديات التي يكثر فيها عدد الحكواتيين، ولكل قاص وجهة نظر مختلفة عن نفس الحدث.

- يلاحظ من خلال متابعة النصوص التراثية، النثرية الشعرية، أن معظمها، وخصوصاً ألف ليلة وليلة، تضمّن عبارات إباحية وسمّى الأشياء بأسمائها، لكن في العصر الحديث هجرت النصوص الأدبية أي كلمة نابية، وثمة من يقول أن هذا حصل بسبب إستيراد الحداثة المسيحانية المهذبة الى العالم العربي، ما رأيك بذلك؟

* إذا قارنّا أصول "ألف ليلة" الخطية بطبعتها العربية الأولى في مصر، سنجد أن التغييرات والتصحيحات التي أجراها المراجع الأول، وهو شخص اسمه عبد الرحمن الصفتى الشرقاوي، هي لغوية لا غير، بمعنى أنه لم يتدخل في المفاهيم، بل اكتفى باللغة. وأول طبعة عربية قد صححت بطريقة "أخلاقية" (إن جاز التعبير) هي طبعة قام بها الأب المسيحي انطون صالحاني (وكان لهذا الإجراء خلفية ذكرها محسن مهدي، الذي يصف مخطوطة عربية لألف ليلة وليلة، مودعة اليوم في المكتبة الرسولية في مدينة الفاتيكان، حيث قام راهب هناك بمحاولة محو بعض الكلمات التي اعتبرها فاحشة في حكاية الحمال والبنات الثلاث). ويبدو أن هذا التصرف المخزي لوّث تصرف مَن جاء بعد صالحاني. وما أبعدنا من كلام الجاحظ، الذي قال في مطلع رسالته "مفاخرة الجواري والغلمان": "أصناف العلم لا تحصى، منها الجزل ومنها السخيف، وإذا كان موضع الحديث على أنه مضحك ومله، وداخلٌ في باب حد المزح، فأُبدلت السخافة بالجزالة انقلب عن جهته، وصار الحديث الذي وُضع على أن يسرّ النفوس يكربها ويغمها (...) وإنما وضعت هذه الألفاظ ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي ألا يلفظ بها ما كان لأول كونها معنى، ولكان في التحريم والصون للغة العرب أن ترفع هذه الأسماء والألفاظ منها".. أو من كلام ابن قتيبة، الذي قال في عيون الأخبار: "وإذا مر بك (أيها القارئ المتزمت) حديث فيه إفصاح بذكر عورة او فرج او وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعر خدك وتعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور وأكل لحوم الناس بالغيب (...) فتفهم الأمرين وافرق بين الجنسين".
وأظن أننا أكثر بعداً من شهاب الدين أحمد التيفاشي، الذي يفكهنا بكتابه نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب بنكت قد تعتبر اليوم من إنتاج الـــ"كفار"، لكونها توظف احيانا آيات قرآنية. وكلامهم – يرحمهم الله – يدل بشكل صريح إلى أن الثقافة العربية آنذاك كانت تفرق وتميز تماماً بين الجنسين، أي الجزل والسخيف، أو الجد والهزل، وتعرف مكان كل منهما، فلا تخلط الحابل بالنابل لان لكل مقام مقال، كما يعرف الكل.

 - ما الذي لفتك في القصص التراثية العربية حتى قمت بتحقيقها؟

* تعدّدها بلا ريب. المخزون القصصي في الثقافة العربية يلفت انتباه أي إنسان يحب الأدب. وما يشوّقنا هو كمية الكنوز التي ما زالت مختبئة في مكتبات العالم. ما هي المفاجاءت التي تنتظرنا (أو ننتظرها)؟ وإذا قارنت هذا الإنتاج بنظيره المعاصر في أي ثقافة أخرى، تندهش من تفوقه – من أي وجه كان. نعرف مسبقاً أن أي الحديث عن الـ"تفوق" قد يبدو مبتذلا وخطيرا، ولذلك اكتفى بأن أقترح دراسة مقارنة للحكايات العربية التراثية وما يعاصرها من حكايات أوروبية.
وفي طبيعة الحال قد يبدو كذلك، في هذه الايام العصيبة، اي مدح او اعتزاز بما يسمى بالـتراث انحيازا او دفاعا او تبريرا للتأسلم وللـ"تداعش". ولكن اي قراءة - على شرط تجنب المفارقات التاريخية - للتراث لن تدعم باي شكل من الاشكال هذا النقاق الديني المعاصر والجرائم التي ترتكب باسمه، بل العكس هو الاحرى. ليس هناك اي امة تتنازل عن ماضيها الثقافي والادبي. الثوار الروس في 1917 لم يحاولوا البتة إنكار اهمية ماضيهم الادبي، بل قدروه ووظفوه لمصالحهم. الثوار الفرنسيون في 1789 كذلك. الثوار اليونانيون، إن وجدوا، لن يحاولوا محو الأدب اليوناني القديم بزعم انه ليس اكثر من خرافات دينية متخلفة. لم ولن تحاول اي مثقفة يونانية ان تمحو بينيلوب عن الوجود مدعية انها تعرقل الحركة النسائية أو تعطي صورة نمطية وسلبية عن النساء الخ. والقضية، كما نعلم، هي فقط قضية توظيف النصوص وتأويلها، لا غير.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها