الأحد 2014/11/02

آخر تحديث: 12:46 (بيروت)

سمير فرنجية: عن الكتب والماركسية والعنف والحوار

الأحد 2014/11/02
سمير فرنجية: عن الكتب والماركسية والعنف والحوار
"جيلي لم ينتمِ الى الماركسية بشكل مباشر، بل انتمى الى ما يمكن تسميته الفكر الاعتراضي الغربي"
increase حجم الخط decrease
سمير فرنجية مفكر سياسي وباحث. ساهم في تأسيس عدد من مراكز الأبحاث، من بينها "مؤسسة الدراسات اللبنانية" و"أوراق الحوار العربي". لعب دوراً مميزاً في "انتفاضة الاستقلال" العام 2005 التي أدت إلى انسحاب القوات السورية من لبنان، وما زال فاعلاً ضمن فريق 14 آذار. كان من أركان "لقاء قرنة شهوان" و"المنبر الديموقراطي"، وأصدر كتاب "رحلة الى أقاصي العنف"(منشورات "شرق الكتاب")، وهو على وجه الدقة "بحثٌ عن منابع هذا العنف في أماكن معتمة من النفس البشرية، بحث يتجاوز السياسة ومتعلقاتها من دون أن يهملها".
زرناه في منزله لإجراء حوار حول علاقته بالكتب والقراءة، بعيداً من السياسة، لكن مسار الحديث عن الكتب، كان يصب في بحر السياسة بشكل غير مباشر. فالقراءة في الكتب والمجلات الفكرية دائماً تساعد سمير فرنجية في فهم ما يجري في السياسة... ومعه هذا الحوار..

هل الأحداث الكبرى والتحولات العالمية التي حصلت في الستينات (زمن الأحلام)، جعلتك في أجواء اليسار اللبناني؟ أم قراءة الكتب؟

*بالتأكيد الكتب، لأن جيلي لم ينتمِ الى الماركسية بشكل مباشر، بل انتمى الى ما يمكن تسميته "الفكر الاعتراضي الغربي"، ومن رموزه جان بول سارتر وألبير كامو.

- جيل أيار 1968...

*جيل حركة أيار 1968 وما قبلها. ففي هذه المرحلة، كنت في فرنسا أدرس البكالوريا، وتعرفت على الشبان الذين أصبحوا قادة حركة أيار في ما بعد، وبالتالي أنا، وكثيرون غيري، دخلنا الى الفكر الماركسي اليساري من خلال الكتب، واتينا الى هذا الفكر على خلفية رفض ما هو قائم...

- رفض بيئتك؟

*رفض بيئتي ورفض التخلف. وهنا أتحدث عن بدايات الحركة الاعتراضية، ففي أولى سنواتي الجامعية في اليسوعية، شكّلنا مجموعة يسارية حيث لم يكن هناك تواجد لليساريين في هذه الجامعة، والعام 1968 كان حاسماً في مواجهة "كتائب بشير الجميل"، بينما كنا مجتمعين اعتراضاً على قمع تعرضت له إحدى منظمات المقاومة الفلسطينية في الأردن، هوجمنا من قبل محازبين كتائبيين، أثار الحادث اضطرباً في البلاد، وقامت الاضرابات في العديد من المؤسسات التعليمية، وشغل التنازع والراديكالية بين اليساريين والكتائبيين واجهة الصحف، ولم يكن للعنف آنذاك طعم المرارة، كما صار لاحقاً.

- من هي المجموعة الاعتراضية التي كانت قريبة منك في تلك المرحلة؟

* الروائي أمين معلوف، كريم مجدلاني (قتل اثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت العام 1982)، والسينمائي الراحل مارون بغدادي... كنا مجموعة كبيرة في حينها، وفي مرحلة شهدت حركة رفض على مستويات مختلفة واتجهاهات متعددة. في الكنيسة حصلت "هزة" جراء أفكار تسعى للتطوير، تزامنت مع حركة إصلاحية كبيرة في الفاتيكان (زمن البابا يوحنا الثالث والعشرين)، من دون أن ننسى الحركة الاجتماعية - العلمانية التي قادها المطران غريغوار حداد، وفي الشأن الثقافي الديني ظهرت كتابات مغايرة للمطران جورج خضر والأب يواكيم مبارك والأب ميشال حايك. كان هناك جو عام تغييري لا يخص اليساريين فحسب، بل المجموعات الاعتراضية، نحن الطلاب اتجهنا نحو اليسار، على ان الحركة الاعتراضية في جانب منها، تشكلت حول الرئيس فؤاد شهاب، وضمّت نادي 22 تشرين. كان لبنان زاخراً بالحراك السياسي والاجتماعي والشبابي، وبقي هذا المشهد الى حين الفرز السياسي والديموغرافي، في البداية بين اليمين واليسار، ولاحقاً بين المسلمين والمسيحيين، أي الحرب الأهلية التي أوقفت موجة التغيير وجعلتها في مكان آخر.
على أن أحداث العالم كانت كبيرة، وشخصيات عربية مثل جمال عبد الناصر كان لها حضورها البارز، برغم انه لم يكن احد بيننا يعتبر نفسه ناصرياً بالمعنى الحزبي للكلمة، لكن شخصية ناصر كانت حاضرة بقوة في الوجدان...

- هل كان له تأثيره فيكم؟

* كان تأثيره كبيراً... اتذكر انني كنت في اتحاد الطلبة، دعينا من قبل اتحاد الطلبة المصري العام 1966، ذهبنا الى مصر نواكب احتفالات الثورة، شاهدنا العرض العسكري الأخير قبل هزيمة 1967. وصل عبد الناصر بسيارة مكشوفة والجمهور يتهافت لرؤيته بشكل لافت، كأن حضوره كان يسحرهم. ومن بعده، صور تشي غيفارا لعبت دورها، كذلك الحرب الفيتنامية أثّرت كثيراً، أقمنا تظاهرة تضامناً مع فيتنام في شارع الحمرا. وأمام كل هذا، تبقى هزيمة 1967 هي الأساس الذي خلق نوعاً من تجذر في المواقف، وأصبحت القضية الفلسطينية أساسية كردٍّ على الهزيمة، وبطبيعة الحال ازداد الوجود الفلسطيني في لبنان، وتوّج بـ"اتفاق القاهرة" 1969، من بعده حصل "أيلول الأسود" العام 1970 في الاردن، كل هذه الأمور نقلتنا من حالة الى حالة أخرى.
وسط هذه الأجواء المتسارعة والمتجذرة، كان هناك ترابط فكري غير تنظيمي بين الحركات الاعتراضية في بيروت والحركات الاعتراضية في أوروبا، بكتّابها ومفكريها، كنا نتابعهم كما لو أنهم يكتبون في الصحف اللبنانية، علما أننا لم نتمتع بوسائل التواصل المتوفرة الآن...

- بالنسبة اليك، ماذا بقي اليوم من أفكار تلك المرحلة؟

* كجيل، لم يبق منه إلا القليل بالنسبة إلي، جيل كان يؤمن بالاحلام والتغيير، البعض منه انتقل الى ما يسمى "الممانعة"، وفي الأساس عمل هذا البعض، الآن، يتعارض مع ماضيه وافكاره السابقة.

- أقصد، هل ما زلت تستعمل أدوات التحليل الماركسية؟

* أكيد لا، بالنسبة إلي، اكتشفت عالماً آخر لمقاربة الاشياء وتفكيكها، لقد وصلت الماركسية الى حدودها، وصرت أهتم بأمور أخرى تتعلق بمسألة العنف. في البداية، في زمن التحاقنا بالفكر الماركسي تحديداً، كنا نقول أن العنف له مبرره في التاريخ، وله أهدافه التغييرية والثورية، واكتشفنا الخطأ الكبير في هذا الأمر، وهذا له علاقة بتجربة الحرب الأهلية اللبنانية، استنتجت ان الانسان ليس من يتحكم بالعنف، بل العنف يتحكم به. ليس أنت من يفرض الشروط على العنف، العنف هو الذي يفرض شروطه عليك.

- من أين أتيت بفكرة كتابك "رحلة الى أقاصي العنف"، هل جعلتك تجربة الحرب تستنتج ما كتبته؟ أم قراءات الكتب؟

* الحرب لعبت دورها. وعندما أتحدث عن الحرب، أقصد بدايتها، مع اغتيال كمال جنبلاط العام 1977، تبين لي أن هناك من يلعب بنا، وبالتالي أصبح همّي كيف يمكن أن نضع حداً للعنف... جرى اغتيال كمال جنبلاط وكان زعيما لليسار و"رمزاً للتغيير"، ثم تكتشف أن القاتل هو جارك أو حليفك، ولأسباب لا علاقة لها بشيء سوى أن "الجار" يريد وضع يده على لبنان، كيف تكمل أمام هذا المشهد؟ فوراً تقع في الصدمة والمراجعة، وبعدها دخلت في مرحلة تجربة الحوار، وبدأت أقرأ حول مسألة العنف، وبتّ أمام هدف واضح، وهو كيف يمكننا أن نفكك العنف. انتقلت من الاهتمامات والقراءات الماركسية الى الانتروبولوجيا.

- من خلال قراءة رينيه جيرار...

* لدى قراءتي مؤلفات جيرار، اكتشفت الطابع الميميائي للعنف المؤسس على الرغبة في رغبة الآخر، وهذا ما ذكرته في كتابي. إنه العنف القائم على التبادلية، هذه القراءة أرشدتني الى قراءات أخرى. في محاولة لفهم العنف الذي دمر لبنان، كما أن القراءة حررتني من التحليلات السياسية القاصرة عن الاحاطة بالمشكلات، والنفاذ الى جوهرها. هذا النسق في السياسة، خلق لي مشكلة مع الحركة الوطنية، وبدأوا ينتقدوني لأني كنت أفتش عن حلول للمشكلات، وانتقدوا علاقتي مع الرئيس الياس سركيس، والحوار غير المباشر الذي أجريته بين بشير الجميل ووليد جنبلاط.

- قرأت بعضاً من هذه الأجواء في كتاب "أسرار الحرب الاهلية" لآلان مينارغ؟

* نعم، أيضاً في تلك المرحلة، قمت بمبادرة رمت الى هدف أكثر تحديداً: وقف الهجمات الدموية التي كانت تستهدف المدنيين في شطري العاصمة بالسيارات المفخخة، وتشكلت لجنة من أمن حركة "فتح" وأمن "القوات اللبنانية" برعاية استخبارات الجيش، وتكتشف هنا، أنه بعد اجتماعات متكررة عقدتها اللجنة، توقفت التفجيرات. انتهينا من التفجيرات، قلنا للشباب نتشكر تجاوبكم، اقتُرح عليّ أن استمر في تنسيق اللقاءات السرية، أكملت هذا المسار لحل الكثير من الاشكالات. الاجتماع الأخير، حصل في الحازمية في منزل ضابط في قوى الامن من زغرتا. أثناء الاجتماع في 4 حزيران 1982، شاهدنا من الشرفة إسرائيل تقصف المدينة الرياضية في بئر حسن، حصل الاجتياح الاسرائيلي وحوصرت بيروت، وبسبب العلاقة التي انشأناها بين القوات اللبنانية وحركة فتح، استطعنا ان نهرّب مجموعة من الفلسطينيين الذين شاركوا في الحوار عن طريق البر، كانت ملفاتهم متوفرة لدى الاسرائيليين وقد جرى تهريبهم بمساعدة القوات اللبنانية ورغم أنف الاسرائيليين. هذا إشارة واضحة إلى أهمية الحكي مع الآخر، لقد كسر التواصل بين المجموعتين المتنازعتين نمطية الـ"نحن" والـ"هم"، وهذا أيضاً ساعدني في مسيرتي السياسية.

- ما الكتب المؤثرة في حياتك والعالقة في ذاكرتك، رواية "مطر حزيران" لجبور الدويهي كتبت عنها مثلا؟

* "مطر حزيران" قصة تخصني وتخص عائلتي مباشرة، وهي حول مقتلة "مزيارة"، كنت من المشجعين لجبور الدويهي للكتابة عن هذه القضية. على أني كثيراً ما أهتم بالكتب من خلال الندوات. في المدة الأخيرة، شاركت في ندوة حول كتاب "حي الأميركان" لجبور الدويهي أيضاً، وكتاب "لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب" لخالد زيادة، هذا عدا عن أني أكتب منذ سنتين، مرة في الشهر، عن الكتب في الملحق الثقافي لجريدة "لوريان لوجور".

- أي كتب تختار؟ 

* غالبا أميل إلى الكتب الفكرية التي تدور في جو الاهتمام السياسي والعيش المشترك والتاريخ. من الكتب التي تناولتها مثلاً، كتاب لإريك رولو، مراسل صحيفة "لوموند"، عن عبد الناصر...

كم تعطي وقتاً للقراءة... عادة معظم السياسيين لا يقرأون؟

* أعطيها وقتاً لا بأس به، ساعة ونصف الساعة في اليوم، تتنوع قراءتي بين الكتب أو المجلات الفكرية التي تساعدني كثيراً في السياسة، سواء في فهم ما يجري في غزة وفلسطين أو ما يحصل سوريا... لقد استوقفني كتاب "كيف توقفتُ عن أن أكون يهودياً" للباحث والمؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، الذي أعلن تبرؤه من الديانة اليهودية، وكان أصدر "اختراع الشعب اليهودي". مثل هذه الكتب تساعدني، وتفتح لي أفقاً، وتجبرني على التفكير في السياسة.

- بعد كتابك "رحلة إلى أقاصي العنف"، هل لديك كتاب جديد؟

* أحضّر لكتاب عن فكرة العيش المشترك واللاعيش، قراءة للجو الحضاري والجو اللاحضاري، يصدر قريباً عن جامعة اليسوعية، وستكون لي مساهمة كتابية ضمن سلسلة "الكتاب الأسود" الذي يصدر في فرنسا، الى جانب ندوات ومحاضرات في سويسرا وبيروت وروما.

- منذ ما بعد اغتيال الزعيم كمال جنبلاط، اهتمامك وثقافتك ومحاضراتك وندواتك تدور حول الحوار والتواصل مع الآخر، هل حاولت أن تبتعد عن هذا المجال، هل قرأت الشعر مثلاً؟

* ثقافتي في الاساس فرنسية، وهذا لا يعني أني لا أقرأ كتباً بالعربية، لكن ما أقرأه له علاقة بالتاريخ أو السياسة، وقرأت قبل مدة كتاب "رياض الصلح في زمانه" للباحث أحمد بيضون، وهو أرشدني بشكل من الأشكال إلى أمور لم أكن اعرفها، في العلاقات اللبنانية السورية في مرحلة الانتداب.
 

*يشارك سمير فرنجية، السادسة من مساء اليوم 2 تشرين الثاني/نوفمبر، في ندوة حول الثقافة والعنف، في إطار نشاطات المعرض الفرانكوفوني في بيروت، بمشاركة مجموعة من الباحثين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها