الخميس 2013/09/19

آخر تحديث: 01:37 (بيروت)

مارينا تروي عتمة "إيفين"

الخميس 2013/09/19
مارينا تروي عتمة "إيفين"
increase حجم الخط decrease
 لا يمكن للقارئ تجاهل مشاعر النقمة والغضب التي تتملّكه، وقد تستمرّ معه، بعد الانتهاء من قراءة مذكّرات الإيرانيّة مارينا نعمت، المقيمة في كندا، والتي اختارت عنوان «سجينة طهران». تتذكّر فيها المدّة التي قضتها في سجن إيفين الشهير السيّئ الصيت في إيران، حين كانت في السادسة عشر من عمرها، عقب الثورة الإسلاميّة وسعي الملالي إلى تصفية الخصوم والمختلفين بشتّى السبل لإحكام سيطرتهم وفرض هيبتهم واللجوء إلى الانتقام. 

مارينا التي كانت طالبة ثانوية تعبّر عن رأيها المناهض لبعض الممارسات الشائنة التي تتمّ باسم الثورة، اعتقلت وزُجّ بها في سجن إيفين الذي كان سجناً سياسيّاً منذ زمن الشاه، وكان إسمه يبثّ الرعب في القلوب، إذ ظلّ مرادفاً للعذاب والموت. يقع السجن شمال طهران على سفح جبال ألبرز. وألقيت مارينا في عتمته سنتين وشهرين وعدّة أيّام، لكنّها تغيّرت في تلك الفترة كثيراً، وذاقت أفظع أنواع التعذيب والإهانة.
 
تذكر مارينا، وهي تنحدر من أسرة روسية مسيحيّة استوطنت إيران عقب الثورة البلشفيّة، أنّ أحداً لم يتحدّث عن إيفين قط، إذ كان محاطاً بجدار من الصمت المخيف. ثمّ تروي جانباً من مأساة جيلها المنكوب بسلطة قمعيّة تاجرت باسم الدين وقضت على جميع المناهضين له، حتّى أولئك الذين اشتركوا في الثورة على الشاه. 
 
تكتب مارينا أنّ شبح الماضي أخذ يطاردها حتى أوشك على اللحاق بها، ولم تتمكّن من إبعاده، بل أصرّت على أن تواجهه وإلّا أُصيبت بالجنون. وتؤكّد أنّها ما دامت لا تستطيع النسيان فربّما يكون الحلّ في التذكّر. وهكذا بدأت في الكتابة عن الأيّام التي قضتها في إيفين، وعن العذاب والألم والموت وكلّ صور المعاناة التي لم تتمكّن من الحديث عنها قطّ وتحوّلت ذكرياتها إلى كلمات نابضة بالحياة. كانت شاهدة، وعليها أن تدلي بشهادتها.
 
مواقف كثيرة مريرة تعرّضت لها تلك الفتاة التي كانت مقبلة على الحياة. انتهكت إنسانيّتها، تعلّق بها أحد محقّقي السجن، واسمه عليّ، وكان قد سبق له الاعتقال في السجن نفسه في عهد الشاه، ثلاث سنوات، وتدخّل لدى الخميني لإنقاذ حياتها من الإعدام، ثمّ حماها تالياً بعدما أجبرها على الزواج به، وكانت معه عندما قتل في عملية تصفية حسابات بين تيّارات متعاركة في سجن إيفين. كان يحبّها ويحميها لكنّها لم تسطع مبادلته الحبّ، بل اكتفت بعدم كنّ مشاعر الكره والبغض له.
 
تروي مارينا، التي أجبرت على اعتناق الإسلام وتغيير اسمها لتتزوّج عليّ، كيف أنّها إحدى ضحايا عصر الرعب، وكيف تمّ تجاهل ماضيها عندما أطلق سراحها من إيفين، حين تظاهرت عائلتها بأن كلّ شيء على ما يرام. لم يذكر أحد منهم السجن بكلمة، ولم يسألها أحد عمّا حدث لها، بينما كانت تتحرّق شوقاً كي تخبرهم عن حياتها في إيفين، ولكنها لم تدرِ كيف تبدأ. انتظرت بلا جدوى أن يبادروا هم بالسؤال، أو أن يحدث أيّ شيء يجعلها تعرف من أين تبدأ. لكن الحياة استمرّت كأنّ شيئاً لم يكن. فكّرت أنّ عائلتها تريد أن تظلّ تلك الفتاة البريئة التي كانوا يعرفونها قبل دخولها السجن. كانوا خائفين من الألم والرعب اللذين قد يثيرهما الماضي الذي مرّت به، ولذلك تجاهلوه، وتجاهلوها أيضاً. 
 
كتبت السجينة مذكّراتها بعد أكثر من عقدين على خروجها من السجن وإقامتها في كندا، مقرّرة أن تطلق صرخة جيل بأسره حرمه الاستبداد والطغيان من التنفّس والعيش. تصالحت عبر الكتابة مع ماضيها، بعدما استردّت حياتها السابقة وخطيبها أندريه، وأنجبت ولدين، إذ غدت الكتابة ترياقها وشهادتها على نكبة إيران بحكّامها وضغائنهم التي خلّفت شروخاً عميقة في بنية المجتمع الإيرانيّ الحديث. 
 
«سجينة طهران»، ترجمة سهى الشامي، تقديم فاطمة ناعوت، دار كلمات، القاهرة 2013.
 
increase حجم الخط decrease