الجمعة 2013/05/17

آخر تحديث: 04:21 (بيروت)

عودة إلى الدنيا

الجمعة 2013/05/17
عودة إلى الدنيا
increase حجم الخط decrease
 يرصد المصريّ خالد البري في روايته «الدنيا أجمل من الجنّة»، التي صدرت أخيراً في طبعة جديدة، سيرة شابّ أصوليّ مصريّ يتراجع عن أصوليّته مفضلاً الدنيا على الجنّة الموعودة. يصوّر معاناة الفتى «خالد»، الذي يقدّمه بضمير الأنا متماهياً مع السيرة الشخصيّة وموحياً أنّه يقدّم سيرته لتتّخذ الرواية صيغة الاعترافات، إذ يتبدّى فيها الروائيّ متحرّكاً تحت تأثير كتّاب سابقين، وربّما تكون إشارته إلى كتاب الاعترافات لجان جاك روسو ووصفه بأنّه كتاب عظيم تأكيداً منه على رغبة التماهي معه، وكذلك تكون إشارته إلى البوتقة لآرثر ميللر والحرّيّة الشخصيّة لجون ستيوارت. 
يصف الراوي روسو بأنّه لم يخجل من إخبار الناس أنّه كان يفعل أشياء «بطّالة». ويذكر أنّه فتح له الباب إلى طريق ذهبيّ اسمه السير الذاتيّة، التي يقول عنها إنها تلك التي تحمل تجارب إنسانيّة فيها من الألم ما يضني ومن الفرح ما ينبت للقلوب أجنحة، لكنّها تختزل ذلك بين ضفتي كتاب. ثمّ يُسقط الأمر على كتابته قائلاً بأنّ الضفّتين تتّسعان أمامه مدركاً من تجربته الشخصيّة ما في القراءة من خداع واحتيال على الزمن وتلاعب به. وأنّها تختزل الألم القاتل إلى تأثّر لدى القارئ المهتمّ أو دمعتين لدى القارئ المرهف الإحساس. وتختصر الكفاح المضني والقلق المحطّم إلى قشعريرة أو اتّساع في حدقتي عينين. 
تتغيّر حالة الراوي إثر انخراطه بالتنظيم مع جماعة إسلاميّة. تكون شخصيّته في مرحلة التهيئة للتبلور، على أعتاب المراهقة في المرحلة الثانويّة حين يتصيّده أنصار الجماعة، يبتدئون بالتأثير عليه من خلال حلقات الدرس في الجامع، ثمّ تكليفه ببعض المهامّ البسيطة، ليتطوّر الأمر شيئاً فشيئاً إلى تنصيبه أميراً في تنظيم الطلبة في مدرسته. 
تتسبّب له حالة التنظيم بالكثير من المشاكل مع الأسرة والحكومة، يبدأ بالاغتراب عن نفسه ومحيطه ومجتمعه، ويضطرّ لارتكاب أفعال وتصرّفات لا تتلاءم مع قناعاته. ثمّ يعود إلى حالة التصالح مع الذات، ينشقّ عن تفكيره الأصوليّ، يتخفّف من أعباء الذاكرة بالكتابة، يختار أبياتاً شهيرة لمحي الدين بن عربي، تلك التي يختمها بـ«أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت/ ركائبه، فالحبّ ديني وإيماني». ويستذكر بعض المفكّرين الذين ساهموا في نهضة المجتمعات، بعيداً عن الفرض والإلغاء والتكفير.
ربّما يكون اعتراف الراوي العليم لنفسه، وتشظّيه المعلَن، حين يقرّ بأنّه لا يعرف نفسه، ويمثّل أدواراً ليست له. يتقمّص الدور جيّداً، ويصدّق كلّ مرّة أنّ هذا هو هو. ما يصفه بأنّه منتهى الكذب ومنتهى الصدق في آن. ويجد نفسه يتفرّج على نفسه ويصفّق لها. ساعة بطل وساعد ضدّ – بطل. والمتفرّج حائر، الممثّل يؤدّي الدورين بنفس الكفاءة والإحساس، والممثّل حائر، المتفرّج يصفّق طوال الساعتين.  
البري الذي كانت روايته «رقصة شرقيّة» قد وصلت لقائمة البوكر القصيرة سنة 2010، يقسّم روايته إلى خمسة فصول، تبدو حالة معكوسة للعنوان وقلباً للوصول إلى النتيجة التي أثبتها بداية، والفصول هي: «الجنّة، الله لي وحدي، نزول الوحي، الفتنة، الدنيا». 
يسترجع السارد مراحل الصِدام والمواجهة مع النظام، يعود إلى بدايات نشوء التنظيمات الإسلاميّة في مصر، ثمّ تفرّعها وتشعّبها واختلافها وخلافاتها. يقتدي الأصوليّ بسيّد قطب وغيره من مفكّري الدعوة، ويحرص على التمايز برغم إدراكه محدوديّته وفشله في قهر حقيقته الراغبة بالعيش كإنسان سويّ بعيداً عن أوهام تغيير العالم وبعث دولة الخلافة وغيرها من أوهام الأصوليّ الذي يرى في العالم كلّه حلفاً متعاضداً ضدّه للنيل منه. يعكس من خلال ذلك أزمته الشخصيّة التي تعكس بدورها أزمة عامّة متفاقمة، من حيث القبول بالآخر أو إلغائه. 
يغوص الروائيّ في مسارب التنظيمات الإسلاميّة، يبرز المحاججات التي تسود وتتصاعد بين أعضاء الجماعات المتخالفة، سواء تلك التي تكتفي بالدعوة أو تلك التي تلتزم بالعنف وتبتعد عن التسامح، في مسعى منها لنسف بنى المجتمع عبر زعم إصلاحه، ويدين حالة السمع والطاعة التي لا تتخلّلها القناعة، لأنّها تقيّد الفكر وتحجّر الإنسان، وتجعله على استعداء مع كلّ الناس. ويبدو متفقّهاً في الأدلّة التي يسوقها كلّ طرف ليدعم وجهة نظره وممارساته. 
يتناصّ البري في روايته مع رواية «لا طريق إلى الجنّة» للبنانيّ حسن داوود. يبتدئ التناصّ من عتبة العنوان الذي يرمز إلى إيثار الدنيا على الجنّة ويكون ذلك حاضراً في كليهما، مع اختلاف في طريقة الإخبار، ثمّ باستخدام ضمير الأنا المهيمن، ويتصاعد، من جهة انفتاح الشخصيّة على داخلها، وصراعها المحتدم مع ذاتها، ومكابدات الشوق والحبّ المكتوم الخفيّ، وفي تفاصيل التعامل مع الآخرين، ولاسيّما في مرحلة الفتوّة، ثمّ في القرار النهائيّ بتفضيل الدنيا والعثور على الذات بعيداً عن أيّة أوهام. وذلك بالتمرّد وخلع أردية التديّن الحاجبة والانفتاح على الذات المتصالحة مع نفسها ومحيطها.
 
• الرواية صدرت في طبعة جديدة عن دار العين، القاهرة 2013. 
 
increase حجم الخط decrease