الأربعاء 2015/05/27

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

محمدو ولد صلاحي: لماذا أنا هنا في غوانتانامو؟

الأربعاء 2015/05/27
محمدو ولد صلاحي: لماذا أنا هنا في غوانتانامو؟
ما زال هناك إذن، في غوانتانامو، مع أن قاضياً في المحكمة الفيدرالية أصدر قراراً في العام 2010 بإطلاق سراحه
increase حجم الخط decrease
في مرّات قليلة نادرة يتطرّق محمدو ولد صلاحي إلى ما يقع خارج تجربته المباشرة مع الإعتقال. في نحو صفحتين ونصف الصفحة مثلا يصف بالتفصيل تقاليد حفلة الزفاف الجارية في بلده موريتانيا، وفي أقل من ذلك يصف اجتماع العائلة حول إفطارات رمضان. هاتان الوقفتان لا تتكرّران في الكتاب، إذ ما يجري ذكره أو وصفه من خارج الإعتقال والسجن لن يزيد على ملاحظات عابرة. لم يشأ ربما أن يُدخل إلى سجنه ما هو خارجه، بما يذكّر بقول السجين السوري رياض الترك عن نفيه، وهو في السجن، الصور والخيالات التي  تدفعه إلى الحنين لما هو، ولمن هم، في الخارج.


"يوميات غوانتانامو" حاشد إذن بوصف الأمكنة الداخلية من زنازين ومحطّات توقيف وغرف تحقيق وغرف عزل وأماكن تعذيب، وكذلك سيارات وشاحنات وطائرات كان يُنقل بواسطتها إلى بلدان توقيفه موريتانيا والأردن وأفغانستان وكوبا، حيث معتقل غوانتانامو الذي نقل إليه  يوم الرابع من آب 2002 وما زال فيه إلى الآن. وإضافة إلى ذلك هناك الوجوه الكثيرة للمستجوبين والمحقّقين والحراس. من وجوه الخارج يأتي مرارا على ذكر والدته، التي خصّها في كلمة الإهداء، وأخيه. أما زوجته، أو زوجتاه، فنادر ذكره لإحداهما، ومنعدم في ما يتعلّق بالثانية.

وإلى ما يصفه من أمكنة ووجوه نقرأه دائم الوصف لجسمه،  متًصلا على الدوام بما يتلقّاه هذا الجسم من طبيعة تلك الأمكنة وعملِ بشرها فيها. مشاعر مثل الخوف والمهانة والفزع وترقّب الأسوأ كانت ترفق على الدوام بالعوارض التي تتركها على الجسم وأعضائه، كأن يكتب مثلا عن جفاف الحنجرة وتصلّبها وجفاف اللسان واحمرار الوجه الفاضح الملازمة للحظات الخوف القصوى. وهناك ذكر كثير لنحول جسمه بسبب الأرق والتعذيب وعدم قدرة على تناول الطعام الذي يقدّم له، وهو نحول أدناه من الموت في مرات كثيرة.

كلّ شيء عن الإعتقال المديد وحياته في السجون التي تنقّل بينها. وهو، وقد كتب كتابه بصيغة المتكلّم، لم يضيّع شيئا من الحوارات والإستجوابات التي شملتها التحقيقات التي أجريت معه. تذكرّها جميعها، كلمة كلمة وملمحا ملمحا، واسما اسما وإن خلا كتابه من الأسماء جميعها بعد أن أجرت السلطات الأميركية رقابتها على الكتاب قبل نشره، حاذفة كل ما يتصل بأسماء الأشخاص والأماكن والتواريخ والوقائع التي رفضت نشرها. وقد أبقى الكتاب مواضع الشطب ماثلة بخطّ أسود، ما جعل الصفحات، جميعها على وجه التقريب، مشطّبة بالخطوط السود. كان ذلك سيؤدّي إلى تعذر القراءة لولا الجهد الذي بذله محقّق الكتاب لاري سيمنز الذي عمل، إما على تحييد ما اجتزىء للحؤول دون تشوّش القراءة، وإما على تزويد القارىء بمفاتيح تسعى إلى إيضاح ما جرى شطبه.

يقول سيمنز في تقديمه للكتاب أن ولد صلاحي كتب مذكراته تلك باللغة الإنكليزية، "وعلى سبيل التسلية ليس إلا" طالما أنه في معتقلاته التي سبقت غوانتانامو الأميركي، لم يكن متمكّنا من تلك اللغة بالمقارنة مع العربية، لغته الأم، والألمانية التي أجادها في فترة إقامته في ألمانيا. ثم أن المحقّقين الأميركيين كانوا دائما هناك، في معتقلات البلدان التي تنقّل بينها. كان يعلم دائما أنه سجين لدى الأميركيين، وهو أبدى سخطا على حكومة بلده التي اعتقلته بناء على أوامر أميركية ورحّلته إلى الأردن بناء على تلك الأوامر ذاتها. كما ذكر، تعليقا على ذلك الإذعان، أن رئيس الجمهورية ولد طايع سيدفع ثمن تسليمه للأميركيين، بل هو دفعه فعلا بإطاحته.

أكثر ما أثّر فيه هو تعريته لأول مرّة من ثيابه ثم تغطية أعضائه بحفاّض أطفال، وفي فترة لحقت يروي عن قطع الثلج الكبيرة التي لُفّ بها جسمه ودفعته إلى أن يرتجف كأنه مصاب بالباركنسون. هاتان الحادثتان كانتا الأبرز بين ما استوقف القراء في أميركا وبريطانيا عند صدور الكتاب محققا إقبالا جعله بين الكتب المئة الأولى في "أمازون". ولم يفد شيء في تقدّم محاكمته التي ما زالت عند حدّ بدايتها ذاته. بحسب ما يرد في التقديم للكتاب أنّ وضعه كمعتقل لم يتبدّل منذ 13 سنة، وهذه مدة اعتقاله في غوانتانامو. طوال هذه السنوات "لم توجّه إليه الولايات المتحدة أيّ نوع من التهم". وهو أيضا ظلّ على شهادته ذاتها، التي يستطيع أن يكتفي منها برفع رأسه نافيا ما يوجه إليه، لكنه، في كتابه، يجادل بوعي وبمعرفة كلّ ما يراه ويسمعه.

ما زال هناك إذن، في غوانتانامو، مع أن قاضياً في المحكمة الفيدرالية أصدر قراراً في العام 2010 بإطلاق سراحه. يبدو من الكتاب كما لو أن أميركا تبحث عن شيء لم تتوصّل إليه على رغم دأبها طوال تلك السنوات، أو كأن عنادها وحده هو ما يبقي محمدو ولد صلاحي هناك في معتقلها.


*"يوميات غوانتانامو" كتاب محمدو ولد صلاحي، تحرير: لاري سيمنز، الترجمة عن الإنكليزية: عمر رسول، عن "دار الساقي" في 382 صفحة، 2015.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها