الأربعاء 2015/07/29

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

إيمان مرسال..عندما يقترح عليك الشعر أن تكون شخصًا آخر

الأربعاء 2015/07/29
increase حجم الخط decrease
"ربما الشُباك الذي كنت أجلس بجانبه/ كان يعدني بمجد غير عادي"، تقول الشاعرة المصرية إيمان مرسال في ديوانها "ممر معتم يصلح لتعلم الرقص"، و"ربما" في تأويل مباشر للجملة الشعرية قد نستوعب الحضور الجماهيري الكبير الذي ملأ مسرح "تاون هاوس" بوسط القاهرة عن آخره، لحضور لقاء مفتوح معها> فأن يحضر قرابة 150 شخصاً أمسية لشاعرة من شعراء النثر، في ظل المشهد الأدبي المصري الراهن بكل ملابساته، وهو عدد قد يفوق عدد الحاضرين في مؤتمر قصيدة النثر مجتمعين، لهو أمر مبهر، يسهل معه التوصيف بأنه "مجد غير عادي".

فهل الأمر مرتبط بقصيدة إيمان مرسال الشعرية، أم هي رغبة محب الفن في التعرف -عن قرب- على الذات الإنسانية والإبداعية لشاعرة "مختلفة" قليلة الحضور ونادرة الحديث عن تجربتها؟

قصيدة النثر، أكثر إيحاءً من غيرها من الألوان الإبداعية، بكشف الذات الشعرية لكاتبها، ولكن ما هو كم الاختلافات بين الذات الإبداعية والذات الحقيقة للكاتب؟ يتعامل النقد –في كثير من الأحيان- مع الأديب باعتباره شخصيتين؛ شخص حقيقي وذات مبدعة، وربما هي محاولة منه –الناقد- للابتعاد بالنص الأدبي عن الدائرة الضيقة للذاتية. وتقول إيمان مرسال مدافعة عما قد يبدو صدامياً في شخصيتها، إنها عندما جاءت إلى القاهرة في تسعينات القرن الماضي وجدت نوعين من الأديبات؛ الأول أسمته "ضمير الأمة" (رضوى عاشور كمثال)، والثاني "الشاعرة الأنثى"، وهي برأيها ليست هذه أو تلك، فاختارت أن تصنع لنفسها خطًا مغايرًا، ربما هو صداميتها. لكن الشاعرة التي ما زالت، رغم السنوات، تحفظ لمدينة المنصورة قدرًا لا بأس به من نبرة صوتها ومفردات الكلام، تقول في معرض حديثها عن تجربة الغربة، إنه ليس لديها ذلك الشعور المأساوي بالاغتراب وهي تعيش خارج مصر، فهي قادرة في أي مكان أن تصنع لنفسها حيزًا خاصًا، وربما قد يتجلى ذلك الحيز في غرفة خلف البيت تدخن فيها وحدها، وكأنها ما زالت تحمل الحس الشعري نفسه الذي كتبت به قصيدتها "لي اسم موسيقي" في ديوانها الصادر قبل عشرين عامًا بالضبط... "فكرت أن أسمي شارعنا باسمي/شرط توسيع بيوته/ وإقامة غرف سرية/ بما يسمح لأصدقائي بالتدخين داخل أسرتهم/ دون أن يراهم أخوتهم الكبار".

إذا كان البحث عن إيمان مرسال هاجساً لقراءة أشعارها، والمقاربة بين ما تكتب وما تبدو عليه ظاهرياً، فلعل الأمسية التي استضافتها القاهرة مؤخرًا، تحمل بعض الإجابات لذلك، ولكنها إجابات لم تظهر في حديثها، بقدر ما أظهرته ملامح تلك الأمسية، والتي حالت الأسئلة التي تركزت حول خلفيتها الثقافية وتجربة الغربة، دون الحديث عن رأيها في الكتابة والمنجز الشعري العربي وموقع قصيدة النثر منه. تلك الأسئلة الكبيرة التي يبدو أن إيمان مرسال تضعها محل موقفها من القضايا الكبرى، فهي تقول إنها لم تظهر في مجتمع يرفض تلك القضايا بقدر ما كان مجروحًا بها.

مجتمع التسعينات التي كانت ظروفه أسوأ الآن-بحسب رأيها-، يشعر كتّابه وتشعر هي نفسها بغربة أكبر من غربتها في كندا، أخذ فيه تصديهم لردود الأفعال حول أدبهم من طاقتهم الإبداعية على الكتابة، تقول ذلك وهي تذكر بين الحين الآخر حكاية مبتورة لقصة عن لحظات مضت، تستهل كلامها بـ"لدي حكاية ظريفة عن ذلك"، فتلقي الحكاية غير مكتملة، لا تساوي قدر احتفائها بها، لأنها تسرد الحدث دون تبعاته، وكأنها تشارك بحكايتها جمعًا آخر غير ذلك الجمع. جمع يعرف ما حدث، شعراء يجتمعون في لقائهم الدوري عند شاعر العامية الراحل مجدي الجابري، يتناقشون في الثقافة وينتفون ريش متصدري مشهدها، كما يقرأون الكتب ويعدون دراسات حولها، بينما يلقون القليل من قصائدهم ربما.. "يبدو أنني أرث الموتى/ ويومًا ما/ سأجلس وحدي على المقهى/ بعد موت من أحبهم/ دون أي شعور بالفقد/ حيث جسدي سلة كبيرة/ ترك فيها الراحلون/مايدل عليهم".

في كندا، توقفت إيمان عدة سنوات عن الكتابة، كانت تخشى السقوط في فخ النوستالجيا، ولعل ذلك ما أحدث تحولًا فنيًا لقصائدها التي جانبها بعض الغنائية في ديواني "ممر معتم يصلح لتعلم الرقص"، و"المشي أطول وقت ممكن"، إلى سردية شعرية، تشي عن قصيدة نثر مكتملة تبدت في ديوانها الأخير "حتى أتخلى عن فكرة البيوت"، وكأنها تعلن عن ذلك إذ تقول "أنا التي تركتُ بلدًا في مكانٍ ما لأتمشى في هذه الغابةِ/أحمل جثةً لم ينتبه لغيابها السِربُ"، بيد أن الغربة التي مرت بها إيمان مرسال ليست في انتقالها من مصر إلى أميركا أو برلين أو كندا. لعلها الغربة الأولى منذ تركت قريتها، ميت عدلان في مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، فهي التي "بعت أقراطي في محل الذهب لأشتري خاتمًا من سوق الفضة. استبدلته بحبر قديم وكراس أسود. حدث ذلك قبل أن أنسى الصفحات على مقعد قطار كان من المفروض أن يوصلني إلى البيت. وكان كلما وصلت إلى مدينة بدا لي أن بيتي في مدينة أخرى".

الذات الشاعرة في قصائد إيمان مرسال، هي  مرسال نفسها، لكن تلك الذات التي تتبدى في شعرها، تبدو، في إحدى وجوه قراءتها، وكأنها ذات سادية في طريقتها لاستخراج المشاعر الإنسانية من  كاتبها، ما يعيد القارئ الذي عرف إيمان مرسال بوجوهها الصدامي/العفوي/ ابنة القرية/ الأكاديمية المرموقة/ الشاعرة المتألقة، إلى قراءتها مرة أخرى، فربما لم يفهم المعنى العميق لأن "تمنحك الصدفة اسما ملتبسًا/يثير الشبهات حولك/ ويقترح عليك أن تكون شخصًا آخر". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها