الأربعاء 2015/12/16

آخر تحديث: 13:56 (بيروت)

كيف ولماذا يترجِم العرب اليوم؟

الأربعاء 2015/12/16
كيف ولماذا يترجِم العرب اليوم؟
معرض الكتاب(علي علوش)
increase حجم الخط decrease
تتكشّف متابعة نشاط ترجمة الكتب ومحاولة قراءة عدد لا بأس به منها، عن ظاهرة مأساوية محزنة وتبعث على الكمد: الغالبية الساحقة من الكتب المترجمة، وخصوصاً البحثيّة والفكرية، غير قابلة للقراءة بالعربية. وإلى جانب الطفرة في نشر الرواية في أسواق النشر العربية، تتكاثر، منذ سنوات، ترجمة الكتب من لغات أجنبية: الانكليزية والفرنسية غالباً، والألمانية أحياناً. أكثر دور النشر نشاطاً - بالمقاييس العربية للنشاط في مجال الترجمة - هي الدور المصرية واللبنانية، والسورية ما قبل الثورة على نظام الأسدين. بعض من هذه الدور يقوم بأعمال مشتركة في مجال النشر والترجمة، لاسيما بين دور لبنانية وعراقية وجزائرية. لكن غالباً ما تكون بيروت مركز عملها الأساسي. فالعاصمة اللبنانية لا تزال مركزاً حيوياً للنشر وشبكات توزيع الكتب منها الى العواصم العربية. بعض الترجمات يحظى بمساعدات وتسهيلات مالية وحقوقية من هيئات ومؤسسات ومنظمات ومراكز ثقافية أجنبية، خصوصاً الكتب الأدبية والفكرية.

والغريب أن ظاهرة عدم قابلية الكتب المترجمة للقراءة مسكوتٌ عنها في عملية تواطؤ يشترك فيها المترجمون والناشرون والعاملون المتابعون في الصحافة الثقافية، وصولاً إلى القرّاء أنفسهم. ومنهم الباحثون في مجالات المعرفة والأساتذة الجامعيون والعاملون في مراكز أبحاث متخصصة، وهؤلاء غالباً ما يقومون بأعمال الترجمة أو يشرفون عليها.

قبل محاولة التفكير في ما يدعو العرب إلى الترجمة، لنحاول أولاً وصف كيف بترجمون، بناء على تجربة شخصية مريرة ومحبِطة، في قراءة كتب متنوعة مترجمة الى العربية. تُظهِر هذه التجربة أن المترجمين غالباً ما يفتقدون تجربةً وخبرةً وحساسيّة كتابيّة بالعربية. أي أنهم ليسوا  قطّ كتّاباً، بل لم يسبق لمعظمهم أن مارس نوعاً من الكتابة أو اختبرها قبل شروعه في ترجمة كتاب ما، تحت طلب ناشر ما. بعضهم قد يكون كابد عناء كتابة أطروحة جامعيّة، أدّت به الى التدريس في الجامعة، والى هجرانه الكتابة نهائيا. هذا إذا اعتبرنا إعداد الأطروحات الجامعية عملاً كتابياً فعليّاً. ويجهل المترجمون أصول الكتابة السليمة والتي تؤدي معنىً واضحاً وقابلاً للفهم في اللغة العربية. وهم يفتقدون أيضا أي ذائقة لغوية كتابية، إلا في حال كتابة ما لا يتطلب جهدا ذهنيا وثقافيا ولغويا يتجاوز الكتابة المدرسية. ففي أعرافهم ليست الكتابة حرفة ولا ذائقة ولا فناً يتطلب خبرة وممارسة في المجال اللغوي والتقافي، قراءةً وكتابةً، بل هي عمل يجيده لك من تعلم تعليماً مدرسياً وجامعياً.

قد يجيد المترجمون القراءة في اللغة الأجنبية التي يترجمون منها، لكن معرفتهم بها غالبا ما تقتصر على ما حصّلوه منها في التعليم المدرسي. وهم حين يترجمون، يقومون بنقل الكلمات - كل كلمة بذاتها ومستقلة عن الأخرى -  نقلاً حرفياً من اللغة الأجنبية إلى العربية التي لا تتجاوز معرفتهم بها، وخبرتهم فيها، القراءة المدرسية وفي أوقات الفراغ. والترجمة الحرفية، أي نقل المعنى القاموسي للكلمات من لغة الى لغة أخرى، هي في أحسن الأحوال ترجمة ببغائية. المترجم في هذه الحال لا يستوعب معنى الجملة التي يترجمها استيعابا كليّاً، وفي السياق الذي ترد فيه، بل يكتفي بنقل المعنى العام القاموسي لكل كلمة بمفردها، من دون أي معرفة بالإطار الفكري للكتاب المترجم. هكذا غالباً ما يتحول النص المترجَم، نصاً لكلمات مرصوفة متتابعة لا معنى لها، أو أن معناها عشوائي واحتمالي في أحسن الأحوال. كلمات مفككة وجمل أكثر تفككاً لا يعلم كاتبُها كيف وأين تبدأ وتنتهي. كأنما النص في هذه الحال أشبه بلوحة كلمات ببغائيّة.

لا يكلّف المترجم نفسه عناء قراءة ما ترجمه. والأرجح أنه سيجده غير قابل للفهم والقراءة أو لفهم عشوائي تقريبي غائم، كأنه كُتِب أثناء النوم. أما أخطاء الصرف والنحو والإملاء فهيهات أن ينتبه لها لتداركها وتصحيحها. وغالباً ما تجد في جملة واحدة من سطر أو اثنين أو ثلاثة، عدداً كبيراً من أسماء أو أدوات الوصل التي لا نعرف تصل ماذا بماذا، وعدداً مماثلاً من الضمائر التي يصعب إدراك لمن تعود وماذا تضمر.

والمترجم ليس في الأصل قارئا لمؤلفات الكاتب الذي يقوم بترجمة كتاب من كتبه، ولم يكن قد سمع بعنوانه وباسم كاتبه، قبل أن يطلب منه صاحب دار للنشر تعهّد ترجمته. ودور النشر التي تُصدر هذه الكتب المترجمة غالباً ما لا تراجعها. معظم الدور العربية (وخصوصاً في بيروت) تخلو من جهاز تحريري يراجع النصوص المترجمة ويختبر قابليتها للقراءة. الكثير من الدور يقتصر العمل فيه على أصحابها الأفراد، مع سكرتيرة مكتب لتلقي الاتصالات الهاتفية والطباعة على الكومبيوتر. الأخطاء المطبعية لا تصحّح. أما الأخطاء اللغوية والصياغية فما الجدوى من تصحيحها في نصٍ تستحيل قراءته ويصعب فهمه؟

وعلى الرغم من هذا كله يتزايد نشر الكتب المترجمة إلى العربية!

تدعو هذه الظاهرة إلى تساؤل مرير: كيف ولماذا يستمر النشاط في ترجمة الكتب إلى العربية ما دامت سلعة رديئة أو مغشوشة يُفترض بالقراء ألاّ يقبلوا على شرائها بعد تجاربهم السيئة معها واكتشافهم عدم قابلية معظمها للقراءة! الأمر الذي ينطوي على هدر للجهد والمال والوقت وشعور بالإحباط. هذا سؤال عقلاني يصعب أن يحظى بجواب شافٍ في المعايير والتقاليد العربية الفوضوية السائرة، حيث تسود حالة من التواطؤ وعدم الاكتراث وتبادل المصالح النفعية المادية والآنية العارية من اعتبارات ومعايير مهنيّة وأخلاقية. والحال هذه تؤدي الى غياب تكوّن دوائر للرأي العام أو للعلانية العامة التي يجري فيها تبادل الرأي والنقد وصناعتهما في الشؤون والمجالات المختلفة. والأرجح أن هذا الغياب هو ما يترك الحياة والمنتجات الثقافية المتداولة خارج أي اعتبار عقلاني أو معقلن وقابل للمساءلة والنقد. لذا يعمل كلٌ على هواه ووفق آليات ومعايير ومصالح داخلية خاصة قوامها السكوت والتواطؤ لتحصيل فوائد آنية سريعة في مجال الترجمة والنشر، من دون حسيب ولا رقيب.

قد يقول قائل اليوم في هذه المسألة: كيف لمن يشرب البحر أن يغصَّ بالساقية؟ أي أين نحن اليوم لنُجري حساباً نقدياً لمسألة جزئية وتفصيلية مثل رداءة ترجمة الكتب، فيما العالم العربي والتقافة العربية غارقين في مآزق وجودية كبرى؟!

يكتسب هذا السؤال معناه من حال التمزق والتحلل والحروب الأهلية الإقليمية والدولية الدموية والمدمرة الدائرة في أرجاء بلدان عربية كبرى وأساسية. لكن أليس من صلة ما، ولو بعيدة وخفيّة وتفصيلية، بين الحال العربية الراهنة وأشكال تدبير (تدمير) شؤوننا السياسية والاجتماعية وإدارتها وتنظيمها، وأشكال إنتاج حياتنا وثقافتنا في مجالات العمران والإقتصاد وإدارة المؤسسات العامة والخاصة، ومنها مؤسسات صناعة الكتب وترجمتها؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها