السبت 2014/07/26

آخر تحديث: 13:05 (بيروت)

صفاء فتحي.. قصائد مضادة للفناء

صفاء فتحي.. قصائد مضادة للفناء
increase حجم الخط decrease

تكتب صفاء فتحي (شاعرة مصرية مقيمة في فرنسا) قصيدتها النثرية من مخزون الشعر العربي الموزون، بلغة ترّد إلى السينما التي تشكّل أحد أنشطة الشاعرة الرئيسية. القصيدة عند فتحي على علاقة أيضاً بالثقافة الغربية، وبالمسرح الغربي (رسالة الدكتوراه التي ناقشتها في السوربون) كما قصيدتها على علاقة باختصاصها في فلسفة جاك دريدا. روافد كثيرة تصب في قصيدة الشاعرة، تليها حساسيتها الخاصة ورؤيتها الشخصية للأشياء وأمور الحياة والفن والشعر. عن قصيدتها ولغتها والثورة المصرية، كان لجريدة "المدن" هذا الحوار معها.


-         يلفت استخدامك للقيمة التعبيرية للأصوات في قصيدتك، وعندك ذلك التناسب بين الأفكار ومستلهم هذا من حركة روحك وحساسيتك. هل تسيطرين على قصيدتك أثناء الكتابة أم تسيطر عليك؟

الأصوات لها علاقة بالتناغم والبنية الإيقاعية للقصيدة. أنا أكتب قصيدة النثر ولكنني محمّلة بتاريخ كامل للشعر العربي وهو شعر موزون وتحرّره من الوزن ما هو إلا عملية تحرّر شكلية وتصارعية مستمرة. لذا فأنا أقرّ بذلك وأعترف به مثل المجرم الذي يعترفه بذنبه لأجل تخفيف العقوبة. أصواتي كثيرة ومتعدّدة فلغتي الأم الحقيقية هي لغة الصعيد المصري الغليظة التي تحمل في طبقات تكوينها لغة التراب والنيل، العنف والبداءة السحيقة، الصرخة والحشرجة والموت الرابض في كل مكان.

يقول جاك دريدا أن جنوناً ما لا بدّ أن يراقب الفكر ويسهر عليه... الشعراء مجانين ومخبولون في صراعهم الدون كيشوتي مع واقع يمحو من الأصل فكرة الشعر الذي أصبح وجوده أملاً لا رجاء له. كل هذه التساؤلات هي تساؤلات القصيدة، التي تستمدّ مادتها الخام من الحساسية المفرطة الواقعة على حافة الجنون، تستمدّها من تآلف وصراع الأصوات في النفس التي تصمت على هذا الصخب على أمل سيادة صوت واحد يكون هو في النهاية هو صوت الشاعر.

عندما أكتب القصيدة هناك إملاء ما. هناك من يملي عليّ ما أكتبه وأنا أحياناً أواجه حالة من العجز التام أو ربما مقاومة الكتابة. فكتابة القصيدة حدث جلل قد لا يهمّ أحد البتة وكثير من الأحيان أنا أكتب قصائد لا أنشرها ولذا فأنا أبعد عنها كما يبعد المرء عن النار لتخف جذوتها وبعدها أعود إليها وقد يكون ذلك أحياناً بعد بضعة سنوات كي أنحتها من الصلصال أو الصخر  وأُشكلها من الماء والهواء بوضع إطار لها، ومحاولة فهم آليات تشكّلها من الأساس كمادة خام. كتابة القصيدة هي لحظة سيادية بامتياز وإن كانت السيادة مرواغة بين ما يأتي من هنالك وبين الوسيط الكاتب. هي أيضاً حالة من الحب عندما تتجلّى سيادة الذات في محوها. وليس هناك أدنى تناقض في هذا المنطوق.


-         تكتبين القصيدة كما لو تكتبين ذاتك وتختصرينها وتكثفينها، ما هي الفنيات المعتمدة في كتابتك؟ ثمة مشاهد كاملة في ثلاثة سطور مثلاً أو أكثر؟

أكتب عن ذاتي ولا أكتب عنها. أكتب عن لحظة وفضاء المسافة بين الذات ووعيها بنفسها على أنها ذات مشكلة من آخرين عديدين هذا هو عين اللحظة التي أكتب عنها. عن هذه المسافة المراوغة لأن التدوين في حد ذاته مسافة. لغتي أيضاً لها علاقة بالسينما التي كما تعرفين هي أحد أنشطتي الرئيسية. عموماً أنا أبدأ من الصورة وأنتهي إليها. الحرف صورة، الكلمة صورة، الضوء صورة، الأسماء والمسميّات صور. هناك قصائد ملونة وأخرى من الأبيض والأسود هناك قصائد في حالة من الترحال حتى وإن كنت أعتني تماماً بخاتمة القصيدة كنهاية وإن كانت خاتمة مرسلة الى مكان آخر. أستمدّ أيضاً قصائدي من الأحلام والأحلام بطبيعة الحال مكثفة تمارس الإحلال والتحول والنقلة المفاجئة وتكثيف الأماكن والأزمنة والشخوص. 


-         هل استفادت طريقة كتابتك من إقامتك الطويلة في فرنسا؟ كيف؟

بطبيعة الحال علاقتي بالثقافة الغربية علاقة عميقة ومنذ الصغر لأنني دارسة للأدب الإنجليزي وخاصة شكسبير الذي كنت أحفظ مقاطع من مسرحياته عن ظهر قلب كما إنني أهتدي كثيراً بقصائد بول تسيلان الذي أقرأه بشكل شبه يومي. درست المسرح الغربي أيضاً فهو موضوع رسالة الدكتوراه التي ناقشتها في السوربون في أوائل التسعينيات كما إنني متخصّصة في فلسفة جاك دريدا. كل هذه الروافد تصب في قصيدتي العربية التي أتجنّب تماماً إلا في حالات نادرة أن أحملها بكلمات غربية أو أسماء لكتّاب غربيين. هناك تجارب للفكر والشعر والمسرح والفلسفة والموسيقي تمثلتها بشكل حيوي وبالتالي تجد طريقها إلى لغتي بلا أدنى جهد وبلا وعي. 


-         أدخلت الثورة المصرية على قصيدتك الصغيرة وذكرت "التحرير" وسواه من دون الوقوع في المباشرة؟ هل تستطيع قصيدة النثر نقل حدث بهذا العمق؟

الرهان كان على أن أكتب كما أكتب دون مباشرة وأعتقد ان السبب الرئيسي في ذلك هو أن الثورة دخلت في نفق المأساة بدءا من أحداث ماسبيرو فصاعداً. والمأساة هي الحدث الأوحد الذي يولد الفداء ويستلزم تقديم القرابين وكان أن رأيت في ما حدث في مصر أن هناك انتقاماً لقوى الموت من قوى الحياة، فكانت المذابح التي استهدفت أكثر الشباب حيوية وتألقاً وإخلاصاً. أولى قصائد المجموعة عن مينا دانيال، الذي تمت التضحية به من قبل قوى الموت والموات على مذبح الدمار والخراب. موضوع المجموعة هو الوجود لا السياسة.


-         في ديوانك "ثورة وحائط نعبره" بعض القصائد المكتوبة بلغة مدوّرة إذا صح التعبير، لغة صوفية تتمايل حد الإغماء مع انتقاءات لمفردات صحيحة في هذا النحو الصوفي؟

نعم الدائرية هي الطريقة التي أكتب بها وإن كنت أحاول أن أحدّ منها وأوقفها عند لحظة ما، كي يتاح وجود النقلة المفارقة. وأنا بالطبع قارئة شبه يومية للنفري والحلاج وابن عربي الذين اعتمدت عليهم اعتماداً كاملاً وبشكل مباشر هذه المرة عبر الاستعارة في مجموعتي السابقة المنشورة في بيروت "اسم يسعى في زجاجة" الصادر عن دار "النهضة العربية".


-         كيف ترين المشهد الشعري حالياً، العربي والأجنبي وهل الشعر ما زال بخير في عالم ليس بخير؟

هناك محاولات عديدة لإنقاذ الشعر عبر ربطه بفنون أخرى لها صلة نسب به مثل السينما والموسيقى والتصوير. هناك محاولات مستميتة لإنقاذه وأعتقد أنه سيظلّ دائم الارتباط بوجود اللغة، فاللغة أياً كانت تدافع عن شعرها وتحميه لأنه بيتها السرّي الذي ترى نفسها في مراياه العديدة. ولأن العالم تحديداً ليس بخير فلا بد من الشعر. في العام 1946 وعلى جزيرة ماكرونيسوس في اليونان، تم اعتقال الآلاف من المناضلين اليساريين من قبل السلطات العسكرية الفاشية وكان همّ سلطات معسكر الاعتقال الأعظم هو القيام بغسيل مخ للمعتقلين عبر إجبارهم على الاعتراف بخطيئة المقاومة أو عبر البث المباشر من خلال مكبرات الصوت طوال الليل والنهار لنصوص بها إدانة لهم كي يدفعوا بهم إلى الجنون أو إلى الانتحار. فكانت وسيلة مقاومة الإبادة الوحيدة أمام هؤلاء المعتقلين هي كتابة قصائد يدفنونها في زجاجات في الأرض أو يدسّونها عبر شقوق الصخور وكان من بين هؤلاء المعتقليين الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس. هناك إشارة لمقاومة الإبادة والفناء عبر إخفاء جسد القصيدة في آخر قصيدة لي في المجموعة وهي قصيدة "إلى اليابان حيث فوكوشيما".

increase حجم الخط decrease