الأحد 2014/11/23

آخر تحديث: 13:42 (بيروت)

هدنات دي ميستورا.. محاذير "النجاح"

الأحد 2014/11/23
هدنات دي ميستورا.. محاذير "النجاح"
سُجل تحويل مساعدات إلى منطقة "عش الورور" المؤيدة للنظام، والتابعة إدارياً لحيّ برزة.
increase حجم الخط decrease
يُفترض أن تُستكمل في جنيف، أواخر الشهر الجاري، مشاورات الخبراء مع فريق المبعوث الدولي إلى سوريا ستفان دي ميستورا، حول سُبل تطبيق خطته لحل الأزمة. كما يُنتظر أن يتوجه دي ميستورا إلى دمشق، الشهر المقبل، متأبطاً خريطة طريق تفصيلية، يتشوق "وزير المصالحة" السوري ورؤساؤه للاطلاع عليها.

والخطة، حسبما سُرّب للإعلام، خطواتها متدرّجة على مدى عامين. تبدأ باتفاقات لوقف إطلاق النار، مع ربطها بمقاربة "لا مركزية في مقابل توسيع الإدارات المحلية"، تعقبها انتخابات محلية وأخرى برلمانية، وصولاً إلى نظام برلماني بدلاً من الرئاسي، يتمتع فيه رئيس الوزراء الذي تختاره غالبية برلمانية بصلاحيات "واسعة"، إلى جانب صلاحيات "واسعة" أيضاً لرئيس الجمهورية. واللافت أن "مصير الأسد"، بحسب الخطة، متروك إلى ما بعد "العملية السياسية"، ومنفصل عن الخطوات الأساسية لمبادرة دي ميستورا. ما يجعل احتمال بقائه رئيساً، قائماً، أو على الأقل، احتفاظه بسلطات أمنية وعسكرية. وبالتالي، أي مستقبل فعلي للخطة إذا ما ظلت مثل هذه الصلاحيات بين يدي نظام أثبت ولاءه لمنهج العنف العاري سبيلاً لـ"السياسة"؟

وُصفت خطة دي ميستورا بأنها تعتمد منهج "من تحت إلى فوق"، إذ تتمثل "قاعدتها" بدوائر هُدنات تنهي العنف وتؤمن إدخال المساعدات، ثم يتسلق السوريون هرم الخطوات المتدرجة إلى حل سياسي. علماً أن الخطوات نفسها، إن اتضحت وطبّقت فعلاً من الأطراف كافة، ستغير الخريطة السياسية والميدانية والاجتماعية وحتى الجغرافية.. ما يطرح تساؤلاً حول المرحلة الانتقالية والحل السياسي الذي ستتغير مقوماته وأشكال صناعته، بين اليوم ونهاية العامَين المفترضَين.

ومع ذلك، فإن استلهام عشرات التجارب السابقة من اتفاقات وقف إطلاق النار، قد يكون فكرة جيدة وعقلانية، من حيث المبدأ. وذلك على أساس إن الصراع في سوريا تشظى إلى صراعات مرتبطة بلاعبين محليين، قد لا يعود لـ"توجيهات عليا" كبير تأثير فيها، خصوصاً من جهة المعارضة. أهم ما في فكرة الهدنات، إنقاذ حيوات. وثانياً، إفساح المجال للتفاوض، ولعملية سياسية بلا ضغوط الدمار والجوع والدم. لكن ذلك، دائماً وأبداً، يعتمد على الشروط، ناهيك عن مدى الالتزام بها، لا سيما من ناحية النظام السوري. فتطبيق منقوص أو ملغّم بشياطين التفاصيل، قد يحفّز المزيد من العنف، خصوصاً أن التجارب السابقة في إقامة الهُدنات، كان الكثير منها سلبياً، إذ استخدمها النظام مراراً كاستراتيجية عسكرية.

تسويق تجربة برزة  

والحال أنه يتم التسويق حالياً لتجربة إيجابية نوعاً ما في برزة، من أجل اعتبارها نموذجاً يحتذى، ويؤكد صوابية المقاربة الجديدة. فالحي بات هادئاً نسبياً على صعيد الاشتباكات والقصف (فيما تستمر الاشتباكات في حيّي القابون وجوبر المجاورين)، والمواد الغذائية متوافرة إلى حد ما وتباع بأسعار "طبيعية"، والحي أصبح قِبلة نازحين من مدن وأحياء محاصرة كالقابون وحمص وحرستا والغوطة الشرقية... لكن ناشطين يؤكدون أن النظام لم يستكمل تطبيق بنود اتفاقية الهدنة في برزة، لا سيما في ما يتعلق بإطلاق سراح المعتقلين ووقف الاعتقالات الجديدة، وإدخال الأدوية والمساعدات (التي سجّل تحويلها، أكثر من مرة إلى منطقة "عش الورور" المؤيدة للنظام – والتابعة إدارياً لحيّ برزة!). هذا بالإضافة إلى التراجع عن وعود بإعادة نشر حواجز قوات النظام المحيطة بالحي، بل على العكس، زاد عدد الحواجز.

أما عن تجربة المجالس المحلية، التي يُعوَّل عليها، بحسب منطق خطة دي ميستورا، كنواة لعملية سياسية ما في المستقبل.. فها هو المتحدث باسم "المجلس المحلي" لحي برزة الدمشقي يقول إن قوات النظام لم تلتزم بوعودها بالانسحاب من الحي، كما لم تفرج عن المعتقلين لديها وفق الهدنة الموقعة في الحي. وكرر المتحدث، قبل أيام، الكلام عن تشديد أمني عند الحواجز والاعتقالات اليومية، ونقص شديد في المواد الخدمية الأساسية مثل الوقود والغاز، وسط استمرار انقطاع الكهرباء والماء والاتصالات. وأكد أن "قوات النظام حولت المعونات الدولية المخصصة لحي برزة إلى منطقة عش الورور الخاضعة لسيطرتها". وإذ حذّر المتحدث من فشل الهدنة مع قوات النظام، في حال استمرت الانتهاكات، فإنه أشار إلى أن المجلس المحلي في برزة أوقف (إلى متى؟) "العديد من المجموعات المسلحة التي أرادت الرد على اعتقال المدنيين والتضييق على الحي".

وفوق ذلك كله، تصبح حتى هذه التجربة المنقوصة في برزة، "ترفاً" في مناطق أكثر استراتيجية، مثل داريا (القريبة من مواقع "الفرقة الرابعة" التابعة لماهر الأسد، ومن مطار المزة وطريق دمشق – بيروت). في داريا لم يتم التوصل إلى اتفاق هدنة، رغم محاولات عديدة قوامها، كغالبية اتفاقات الهدنات، إدخال المساعدات والإفراج عن المعتقلين، في مقابل تسليم السلاح الثقيل وإزالة حواجز المعارضة في الداخل.


لماذا أقدم النظام على هدنات؟

يُرجع مراقبون ومتابعون عن كثب، موافقة النظام على وقف لإطلاق النار، في تجارب سابقة، إلى واحد أو أكثر من أسباب ثلاثة. الأول: تجسير انتصارات عسكرية، وتكريس هزيمة الطرف المعارض المتعاقد على الهدنة، كما حصل في المعضمية بريف دمشق، مثلاً، حيث فرض النظام شروطه للهدنة، بأثر من تكتيكات العقاب الجماعي المتمثلة في القصف بالبراميل والحصار والتجويع إلخ.. الثاني: "إراحة" جبهة، لإطلاق أو تعزيز عمليات عسكرية في جبهات أخرى. والثالث: بأثر من "توازن ما في القوة"، على طريقة برزة الأقل استراتيجية بالنسبة إلى النظام، يفضي إلى هدنة، ولو كانت عرجاء.

والتمهل هنا في قراءة استراتيجية النظام في تطبيق الهُدنات، ليس من باب أنه "الشرّ الوحيد" في هذه الخريطة، إنما انطلاقاً من حقيقة موضوعية، وهي أنه الطرف الأقدر على عمليات عسكرية منظمة وعلى امتداد الرقعة السورية، مقارنة بالمعارضة التي تبدو قراراتها العسكرية والتكتيكية أكثر مناطقية. والحال أن السيناريو الثالث، وبكل شوائبه، يبدو أفضل ما قد يقبل النظام بتقديمه.. فكم برزة في سوريا الآن؟ وهل حالة حلب، المُقترح البدء بها وتقسيمها بين شرقية وغربية، ستفرز شروط هدنة مقبولة؟

ولا بد من التذكير بأن توازن القوة/الرعب، كما في السيناريو الثالث أعلاه، لا ينحصر في المعنى العسكري البحت بين قوات النظام وفصائل المعارضة، إذ ما زال النظام هو الأقوى بهذا المعنى. لكن المقصود التنبه له، هو اللاتوازن في التبعات الناجمة عن خطوات الطرفين.. فنظام الأسد، حين يمارس العقاب الجماعي في أكثر من بقعة سورية، لا يخشى أي محاسبة أو عواقب موجعة أو رادعة، ولو جزئياً.. لا سيما على إيقاع طائرات التحالف التي تلاحق الإرهاب (من دون كثير جدوى حتى الآن.. بل لعلها عززت شعبية و"مظلومية" المجموعات الأكثر تطرفاً، سواء كانت "الدولة الإسلامية" أو غيرها).

من جهة ثانية، إذا كان الكلام جدياً، في خطة دي ميستورا، عن دور (لم تتضح معالمه بعد) للأمم المتحدة (ناهيك عن أن احتمال إطلاق الخطة بقرار من مجلس الأمن ما زال ضبابياً.. وإذا لم يأت ضمن الفصل السابع، فستزيد التساؤلات حول فرص نجاحها فعلاً)، فإن الدور الأممي المنطقي يفترض أن يتمحور حول: تقديم دعم تقني لإعادة إعمار البنية التحتية، تدريب المجالس المحلية ومساعدتها في هيكلة نفسها، أو حتى وجود ما على الأرض يضمن استمرار الهدنة وينزع التسييس عن العمليات الإنسانية.. فهل سلامة الوجود هذا مضمونة؟ بوعدٍ ممّن؟ وهل تتكرر تجربة برزة – عش الورور؟ ثم، وبناء على تجربة حمص، حيث رعت الأمم المتحدة عملية هدنة، كان أن اعتُقل شبان لم يُخلوا المنطقة مع من أخلاها، وأجبر آخرون على "التجنيد" للقتال في صفوف الجيش النظامي... مجدداً: هل ستُعاد التجارب السابقة باعتبارها "ناجحة"؟ أم سيُستفاد من نقاط نكوصها؟

مصانع التطرف

وفي جانب ثانٍ، يحكي عن نية للأميركيين لاستغلال فترة العامين المفترضَين في تدريب المعارضة "المعتدلة" وتجهيزها. لكن.. أي معارضة؟ وأي منها هي المعتدلة، ووفقاً لأي معيار؟ ما هو معيار الاعتدال الديني؟ بل ومعيار الاعتدال "القتالي"؟ الجيش الحر؟ النصرة؟... وكيف سيتم استيعاب الشروط التي يضعها النظام، منذ الآن، بوقف تمويل المعارضة وتسليحها و"تجفيف منابع الإرهاب"؟

لعل الوقفة هنا مفيدة، عند دراسات غربية، خصوصاً تلك التي أجراها مؤخراً "مركز مكافحة الإرهاب" التابع للأكاديمية الحربية الأميركية. هنا يظهر أن الكثيرين من المقاتلين السوريين (على عكس المهاجرين)، والذين ينضمون إلى الفصائل الإسلامية، سواء أتوا من كتائب الجيش الحر أم من منازلهم، يفعلون ذلك لأنها فصائل "أفضل تجهيزاً وعتاداً"، و"أفضل قيادةً وتنظيماً"، ما يشعرهم بأنها أكثر قدرة على هزيمة بشار الأسد وقواته، إضافة إلى اهتمام تلك الفصائل بالجرحى وبعائلات القتلى. لكن الحال أن هؤلاء المقاتلين يصبحون أكثر تطرفاً، دينياً وايديولوجياً، مع الوقت، أي بعد انضمامهم إلى الفصائل الإسلامية. علماً أن كلمتي "الإسلام" أو "الجهاد"، بحسب الدراسة، لم تكونا من الإجابات الأولى على سؤال من نوع "لماذا تقاتل مع هذه المجموعة؟".. بل الروابط الاجتماعية والأهلية والمظالم السياسية والطائفية، وطبعاً حكاياتهم وحكايات من حولهم والتي تغذي تاريخاً طويلاً من الأحقاد على نظام ذَبَح واغتصَب واعتقل وعذّب في الأقبية.. حتى الموت.

هكذا، ومجدداً.. كيف سيُصنّف "الاعتدال"؟ ومَن سيمثل الشعب (الشعوب؟!) في سوريا خلال جلسات اللمسات الأخيرة على خطة دي ميستورا؟ وجوه من قوات الأرض؟ الائتلاف؟ ناشطون؟ مندوبو مجالس محلية، أم مندوبون إيرانيون وروس وأتراك وخليجيون؟ والأهم، والحال هذه، هل يعتبر ترك "مصير الأسد" إلى ما بعد العملية السياسية، فكرة جيدة؟
يبقى أن الدعم الإقليمي لمختلف أطراف الصراع يعطي كلاً منها إحساساً بالتفوق والنصر. وإن لم يكن هذا الإحساس زائفاً بصيغة مرحلية، فإن امتداده لفترات أطول مما تحتمل معطياته الميدانية والدولية، هو الزائف في أحيان كثيرة.

ففي العام 2012، كانت المعارضة مفعمة بالثقة في انتصارها الحتمي.

والآن، النظام السوري، ومن خلفه إيران وروسيا، أكثر ثقة بنصر عسكري وتسوية سياسية لصالح المعسكر هذا، سواء في سوريا أو خارجها، خصوصاً مع انفلات بعبع الإرهاب.

الأخيرون ما زالوا يشعرون أن "ستاتيكو" الحرب السورية الراهنة لمصلحتهم، فهل سيجدون من يُشعرهم فعلياً بأن الشعور هذا يفتقر إلى الدقة؟       
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها