الخميس 2014/08/21

آخر تحديث: 15:10 (بيروت)

لماذا توافقت واشنطن وطهران على إزاحة المالكي؟

لماذا توافقت واشنطن وطهران على إزاحة المالكي؟
يعزّز خروج المالكي فرص هزيمة "داعش" قبل تحوّلها إلى تهديدٍ إقليمي أكبر من العراق (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease

أذعن رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته، نوري المالكي، للضغوط التي مورست عليه؛ فأعلن التنحي لمصلحة رئيس وزراءٍ جديدٍ يأمل الجميع أن يكون قادراً على تشكيل حكومة وحدة وطنية لا تستثني أحداً من مكونات العراق، وتضع حداً للفوضى الأمنية والسياسية التي ميّزت عهد المالكي. وكان لفشل القوات الحكومية في التصدي للدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" - التي سيطرت في حزيران/ يونيو الماضي على مساحات شاسعة في شمال العراق وغربه، شملت مدناً وبلدات كبيرة مثل الموصل ثمَّ بدأت زحفها نحو إقليم كردستان العراق - الدور الأبرز في القضاء على حظوظ المالكي في البقاء في موقع رئاسة الوزراء. وقد توافقت من جديد الإرادتان الأميركية والإيرانية على ضرورة خروج المالكي من المشهد السياسي العراقي. لقد توصّلت واشنطن الى أنّ داعش ما كانت لتحقّق كل هذا التقدم لولا السياسات الطائفية للمالكي التي أقصت العرب السنة ودفعتهم لدعم جهد التنظيم المتشدد لطرد قوات الجيش العراقي والأجهزة الأمنية التي يتهمونها بالطائفية من مناطقهم. أما إيران، فقد وجدت أنه حان وقت استبدال المالكي الذي غدا مرفوضاً حتى من قبل قوى وتيارات شيعية، وأنه من المهم تقديم وجه سياسي آخر من التحالف الشيعي المحسوب عليها. ومع تقدّم "داعش" صوب كردستان العراق وتهديدها لحليف الولايات المتحدة هناك، قادت إدارة أوباما الجهد العراقي والإقليمي والدولي لإخراج المالكي من الحكم، وتمكنت من إقناع القوى الشيعية الرئيسة في بغداد وراعيها الإقليمي في طهران، بأنّ المالكي لم يعد صالحاً للحكم.

تحوُّلُ العراقِ من معيارٍ لنجاح نهج أوباما في السياسة الخارجية إلى معيارٍ لفشله 

تذهب معظم التقديرات إلى أنّ التوّرط الأميركي في العراق والتدهور الاقتصادي الذي أعقبه في الولايات المتحدة، كانت من أبرز العوامل التي جاءت بالرئيس أوباما إلى الحكم. لقد وعد أوباما أثناء حملته الانتخابية في عام 2008، بأنه سوف يسحب جميع القوات الأميركية من العراق في أواخر عام 2011، فقد كان - قبل ذلك - من بين أعضاء مجلس الشيوخ القلائل الذين صوتوا ضد قرار الذهاب إلى الحرب في عام 2003. كما وعد أوباما بإعادة تحفيز الاقتصاد الأميركي وتخفيف جرعات العسكرة باهظة الثمن في السياسة الخارجية. واعتبرت إدارته أنّ تنفيذ وعدها بالانسحاب من العراق في الوقت المحدد، يعدّ أحد أهم إنجازاتها، ويعزّز صدقية "مبدأ أوباما" الذي يرى أنّ الولايات المتحدة ستستخدم القوة العسكرية فحسب إذا دعت الضرورة إلى ذلك وفي حال تعرّضت "المصالح الأساسية" الأميركية للخطر. وما لم تكن "المصالح الجوهرية" الأميركية مهدّدة بشكلٍ وشيكٍ ومحدقٍ، فإنّ إدارته ستلجأ إلى الاعتماد على العمليات الخاصة، كما هو الشأن في تصفية أسامة بن لادن في باكستان، وعلى الهجمات بطائرات من دون طيار كما يجري في اليمن وباكستان، فضلاً عن تقديم المشورة وتدريب قوات الجيش والأمن في الدول محل الاهتمام كما يجري في أفغانستان اليوم.

ولكنّ تنامي الفوضى الدولية وانفجار الكثير من الأزمات الخارجية في وجه الإدارة الأميركية - مثل سورية وليبيا والعراق والصراع الفلسطيني الإسرائيلي وأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي - جعل مبدأ أوباما مادةً لنقدٍ شديدٍ. وضمن هذا السياق، تحوّل العراق من "قصة" نجاحٍ لإدارة أوباما ومعيارٍ لإنجازاتها في السياسة الخارجية، إلى "قصة" فشلٍ ومعيار ارتباك في السياسة الخارجية. ويرى منتقدو إدارة أوباما أنّ الانسحاب الأميركي "الاعتباطي" خلق فراغاً في العراق ملأه خصوم الولايات المتحدة وأفقدها السيطرة، أو على الأقل، التأثير في مجريات الساحة هناك. وهو الأمر نفسه الذي قد يترتب على الانسحاب الأميركي المفترض أواخر هذا العام من أفغانستان؛ إذ يمكن أن تعود حركة طالبان وتنظيم القاعدة لملء الفراغ المترتب على الانسحاب الأميركي.

المالكي عنواناً للفشل

طوال سنوات حكم نوري المالكي، صمتت إدارة أوباما عن ممارساته وسياساته الطائفية والفساد الذي طبع حكمه. فقد كان همها الرئيس ينحصر في الانسحاب من العراق والتخلّص من التركة الثقيلة لإدارة الرئيس جورج بوش الابن. وفي هذا السياق، دعمت إدارة أوباما بقاء المالكي في موقع رئاسة الوزراء بعد انتخابات آذار/ مارس 2010، على الرغم من أنّ النتائج أسفرت عن تقدمٍ طفيفٍ للقائمة العراقية برئاسة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي على ائتلاف دولة القانون برئاسة المالكي، وذلك بذريعة أنه لم يكن في وسع علاوي تشكيل حكومة أغلبية. ومع انتفاض العرب السنة في إقليم الأنبار ضد المالكي أواخر عام 2012، استمرت واشنطن في دعمه وغضّت الطرف عن سياساته الإقصائية.

لقد رفضت إدارة أوباما دعم "الثوار المعتدلين" ضدّ نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ما سمح لتنظيم "داعش" بالتمدّد في سورية. ثم وجدت أنّ من مصلحتها دعم المالكي وقوات الجيش والأمن العراقيين لمجابهة أي إعادة بعث لـ "داعش" في العراق بعد إنجازاتها على الأرض السورية. وكانت تأمل هذه الإدارة أن يكون تمكّن قوات المالكي من إلحاق هزيمة بهذا التنظيم خير ردٍ على منتقدي الإدارة، ودليلاً على أنّ "مبدأ أوباما" في السياسة الخارجية لا يزال يعمل، وبخاصة في جزئه المتعلق بدعم الحلفاء وتسليحهم وتقديم المشورة لهم من دون حاجة للتدخل مباشرة. وفي مقابل دعم المالكي سياسياً وعسكرياً، فإنّ إدارة أوباما طلبت منه غير مرة أن ينفتح على خصومه السياسيين من العرب السنة والأكراد، وحتى داخل ائتلاف حكمه الشيعي، لكنّ المالكي استمر في العناد ورفض تقديم أي بوادر حسن نية تجاه تشكيل حكومة توافقية.

وقد غيّرت عوامل عديدة من حسابات إدارة أوباما، مثل: التقدم المفاجئ لقوات "داعش" والعشائر السنية المتحالفة معها مطلع حزيران/ يونيو الماضي وهزيمتها للقوات العراقية وسيطرتها على الموصل ومدنٍ وبلداتٍ أخرى في شمال العراق وغربه، وتوحيد "داعش" لمناطق سورية وعراقية على جانبي الحدود تحت سيطرتها، فضلاً عن اقترابها من الحدود الأردنية والسعودية، وتزايد مخاطر زحفها نحو بغداد والسيطرة عليها، وإعلانها "الخلافة الإسلامية". فواشنطن التي كانت تقاوم أي انجرارٍ نحو التورط في العراق مجدداً، وجدت نفسها في وضع حرجٍ لا يسمح لها بالتغاضي عن تعزيز قبضة "داعش" على كثيرٍ من الأرض العراقية واتساع رقعة تمدّدها، بما يمثله ذلك من تهديد لمصالحها في المنطقة، فضلاً عن التهديد الذي تمثّله لمصالح حلفائها وأمنهم هناك، وبخاصة الأردن والسعودية والأكراد وتركيا.


لقد رأى أوباما مبدأه في السياسة الخارجية يتهاوى، ما فسح المجال أمام خصومه السياسيين داخل الولايات المتحدة لادّعاء فشل هذا المبدأ وتحميل إدارته مسؤولية الفوضى التي تشهدها الساحة الدولية جراء ما يصفونه تراجع الزعامة الأميركية، العائد - حسب رأيهم - لانسحاب الإدارة وانكفائها عالمياً.


 لقد بدا واضحاً أنّ سنوات من تهميش السنة العرب تحديداً، وقمعهم واستهدافهم، خلقت بيئة مواتية في صفوفهم لتقبّل "داعش" على حساب النظام الطائفي الذي أرساه المالكي، والجيش الطائفي الذي يقوم على رعايته. وهكذا، فإنّ المالكي الذي أغلق سبل إبقاء أي قوة أميركية على الأرض العراقية أواخر عام 2011، وجد نفسه يتوسل هذه المرة دعماً عسكرياً أميركياً لمواجهة زحف "داعش" والعشائر السنية. وأتبع ذلك بمنح القوات الأميركية الحصانة القضائية التي رفضها قبل سنوات. غير أنّ تحرّك المالكي هذا جاء متأخراً؛ فالمسألة بدت أكبر من مجرد توفير دعم عسكري أميركي جوي أو بري، فقد كانت متعلقة بأسلوب حكمه التسلطي الإقصائي. وهو الأمر الذي عادت الولايات المتحدة إلى التركيز عليه مجدداً، فربطت أي إسنادٍ عسكري ذي معنى للمالكي في المرحلة الأولى، بتشكيل حكومة تشاركية توافقية لا تقصي أحداً، وبخاصة العرب السنة والأكراد، ثم وصلت إلى المطالبة بتنحّيه عن الحكم.

تضييق الخناق تدريجياً وصولاً إلى إخراج المالكي

تمثّل النهج الذي اتبعه أوباما في التعامل مع التحدّي القادم من العراق، بدايةً، في تضييق الخناق على المالكي بغية تغيير سلوكه على الأرض، عبر التأكيد على عدم وجود حلٍ عسكريٍ للوضع في العراق من دون أن تكون هناك صيغة سياسية تشاركية تدمج السنة والأكراد إلى جانب الشيعة، وذلك للتصدي لخطر "داعش" واحتمال تفسّخ العراق إلى ثلاثة أقاليم شيعية وسنية وكردية. لذلك اكتفى أوباما، في حزيران/ يونيو الماضي، بإرسال 300 مستشارٍ عسكري أميركي (رفع عددهم الآن إلى نحو 1000 مستشارٍ موزعين بين بغداد وأربيل) لتنسيق العمليات العسكرية للقوات العراقية على الأرض ضد مقاتلي "داعش". كما أمر بقيام طائرات أميركية من دون طيار وطائرات مقاتلة (إف-18) بإجراء طلعات جوية في الأجواء العراقية، في مهمةٍ حدد هدفها، حينئذٍ، بجمع المعلومات الاستخبارية وحماية العناصر الأميركية على الأرض. ولم يأمر أوباما بأي هجمات على مقاتلي "داعش" إلا في 8 آب/ أغسطس؛ أي بعد نحو شهرين من اجتياحهم الموصل ومدناً وبلدات أخرى في شمال العراق وغربه؛ وذلك بعد بدء زحفهم نحو الإقليم الكردي، وتهديد عاصمته أربيل، فضلاً عن استهدافهم المسيحيين والأيزيديين.

استهدف تأخير التدخل العسكري الأميركي الضغط على المالكي للقبول بصيغة حكم تشاركية واسعة، أو الخروج من المشهد السياسي كلياً، وإحلال شخصية أخرى مكانه تكون أقل استقطاباً من داخل الائتلاف الشيعي الحاكم. وعلى الرغم من حصول التحالف الوطني الشيعي - الذي تعدّ كتلة دولة القانون التي يقودها المالكي أكبر مكوناته - في الانتخابات البرلمانية العراقية في نيسان/ أبريل الماضي على أغلبية ضئيلة لا تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً، فإنّ المالكي لم يتمكن إلى يوم إعلان سحب ترشحّه لرئاسة الوزراء من تشكيل حكومة، وذلك لرفض السنة والأكراد العمل معه بسبب سياساته الإقصائية بحقهم، وكذلك بسبب رفضِ عددٍ من مكونات التحالف الشيعي نفسه لشخص المالكي لتهميشه لهم في الماضي.


وتعزّز الاقتناع الأميركي بأنّ رحيل المالكي شرط لمعالجة جذور الأزمة في العراق، فالقاعدة الأوسع للثوار السنة على حكومته ليسوا من "داعش"، بل هم من مقاتلي العشائر السنية التي تمردت على سياساته الطائفية والإقصائية ولم تعد تحتملها. بل إنّ كثيراً من ثوار العشائر اليوم كانوا من مقاتلي "الصحوات" الذين ساعدوا الولايات المتحدة على هزيمة تنظيم "القاعدة" عام 2006-2007، وقد رفض المالكي إدماجهم في ما بعد في الجيش وقوات الأمن العراقية. ومن ثمّ، فإنّ تدّخل الولايات المتحدة عسكرياً لمصلحة حكومة المالكي كان سيبدو وقوفاً مع الشيعة وإيران ضدّ السنة وحلفاء أميركا في المنطقة، وبخاصة المملكة العربية السعودية المستاءة من المالكي وراعيه الإيراني. وفي هذا السياق، أعلن أوباما في مقابلة له مع جريدة نيويورك تايمز، بأنه لن يقبل أن تتحوّل المقاتلات الأميركية إلى سلاح جو للحكومة الشيعية، كما شدّد على أنّ على إيران أن تفهم بأنّ السعي للسيطرة المطلقة على العراق عبر حليفها الشيعي ستكون له نتائج وارتدادات عكسية.


ومع تواصل الضغوط على المالكي داخلياً خاصة من قبل المرجعية الدينية، وخارجياً من قبل واشنطن وكذلك إيران التي رفعت الغطاء عنه عبر مباركة تكليف حيدر العبادي لرئاسة الوزراء، اضطر في النهاية إلى إعلان التنازل عن تشبثه بولاية ثالثة. وبهذا، تكون ورقة المالكي قد طويت أميركياً بتنسيق مع إيران التي أكّد بعض مسؤوليها أنّ التوافق على العبادي جاء بعد محادثات أميركية - إيرانية.


بالنسبة إلى الولايات المتحدة، يعزّز خروج المالكي فرص هزيمة "داعش" قبل تحوّلها إلى تهديدٍ إقليمي أكبر من العراق. كما أنّ تشكيل حكومة توافقية عراقية سيقلّل من إمكانية توّرط عسكري أميركي بري جديد في العراق. ولا يرغب أوباما في هذا التورط البري، إذ يعتقد أنّ إرثه الرئاسي مرتبط بشكل كبير بسحب القوات الأميركية من العراق. وكان من اللافت أنّ المقاتلات الأميركية بدأت بتوسيع دائرة استهدافها لمواقع "داعش" لتشمل مناطق قرب الموصل وأربيل منذ 16 آب/ أغسطس؛ أي بعد يومٍ واحدٍ فقط من إعلان المالكي تنازله عن تشكيل حكومة جديدة.


أما بالنسبة إلى إيران، فإنّ هدفها الأول هو أن تُبقي على نفوذها في العراق عبر الحفاظ على سيطرة حلفائها على زمام السلطة فيه. وبما أنّ المالكي فشل في ذلك، وأصبح وجوده عبئاً في تحقيق هذا الهدف، فإنها مالت إلى الحفاظ على ذلك النفوذ عبر شخصية شيعية أخرى مقربة منها وأقل استقطاباً من المالكي، وهو العبادي.


وإذا كان الأمر كذلك؛ أي استبدال وجه مقرّب من إيران بآخر، فما الذي سيجعل العبادي ينجح في ما فشل فيه المالكي، أم أنّ الأمر بحاجة إلى تغييرٍ أعمقَ يطال بنية النظام السياسي الذي جاء به الاحتلال الأميركي وكرّس من خلاله منطق المحاصصة الطائفية؟ 

increase حجم الخط decrease