الأحد 2015/01/25

آخر تحديث: 13:45 (بيروت)

معركة تاريخ الثورة المصرية.. من فعلها؟

الأحد 2015/01/25
معركة تاريخ الثورة المصرية.. من فعلها؟
المهمشون اجتماعياً، ظلوا مهمشين ثورياً (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة بدأت معركة الأفكار بالتوازي مع معارك الشوارع، وعلى رأسها ملف الرواية السائدة لتاريخ الثورة. وبعد أن كنا نظن عصراً رافقت الكاميرا فيه كل هاتف، وأصبحت القنوات الفضائية في كل بيت، لا يتعرض أبداً لأزمة توثيق؛ لكن ما حدث هو العكس تماماً.

هذه ليست مسألة نظرية، فبناءً على تصور كل طرف لكيفية اندلاع الثورة، سيتخذ مواقفه الساعية لتكرار أو عدم تكرار ذلك.


الرواية الأولى: ثورة الشباب الطاهر

تظل هذه الرواية الأكثر شيوعاً. الثورة قام بها شباب متعلمون، راقون، يرتدون النظارات ويحملون حقائب الكتف، يهتفون "سلمية سلمية"، وينشغلون برفع صور المظاهرات عبر "فيس بوك" و "تويتر" و"انستجرام"، ولا ينتمون لأي حزب سياسي، ولا يطالبون بمطالب محددة لأشخاصهم، بل بمعانٍ مجردة عامة مثل "العيش والحرية والعدالة الإجتماعية"، يطلبونها بتهذيب من القيادات.

تركيز الإعلام على مشاهد رئيسية، زمن الثورة، أدى لترسيخ هذه الصور. من ذلك: الصفحة الكاملة التي نُشرت في صحيفة المصري اليوم بعنوان "الورد اللي فتح في جناين مصر". كانت هذه أول إطلالة للمصريين على الشهداء، طلاب جامعات ومهندسون وفنان وفتاة جميلة. هذا هو "شهيد الثورة" في الوجدان الجمعي المصري العام.

ولا ننسى أيضاً، صور فتيات جميلات، تم إبراز بعضهن كطالبات في الجامعة الأميركية القريبة من التحرير، وهن ينظفّن الميدان، وبالطبع تنميط صورة مهندس "غوغل" العبقري وائل غنيم، أو طبيب الأسنان شادي الغزالي حرب، وأمثالهما، كنموذج وحيد يمكن الاعتراف به لنيل اللقب السامي "شباب الثورة".

حتى الإعلام الحكومي، بدوره، بعد أن حاول خلال الأيام الأولى نشر روايته بأن المتظاهرين "إخوان" و"أجانب"، ويتقاضون تمويلاً ووجبات من "كنتاكي"، تراجع سريعاً عن ذلك، وأصبح التلفزيون الرسمي يبث لقاءات حيّة من التحرير، وأصدرت صحيفة الأهرام، أكبر الصحف الحكومية، ملحقاً مخصصاً لتغطية الميدان اسمه "شباب التحرير"، يلتقي بالشباب الجميل.

لكن هذه الرواية تتجاهل تماماً إشكاليتين: إذا كانت الثورة سلمية قام بها الشباب الطاهر، فمن المسؤول عن خسائر وزارة الداخلية التي أعلنتها رسمياً: 32 قتيلاً و1079 مصاباً، وإحراق 99 قسماً و4 آلاف سيارة ومدرعة؟

والإشكالية الثانية: من الذين ظهروا إذن في كل الأحداث التالية، محمد محمود، العباسية، مجلس الوزراء؟ الخطاب الإعلامي الرسمي أكد دائماً أن هؤلاء مجرد "بلطجية" أو "طرف ثالث".


الرواية الثانية: ثورة المولتوف

على استحياء يقف عدد محدود من الكتاب الشباب والمدونين خلف توثيق هذه الرواية؛ أطلق شرارة الثورة هنا، فعلياً، النشطاء وشباب الطبقة الوسطى الذين استجابوا لدعوة "الفيس بوك"، لكن هذه الشرارة اشتعلت ناراً بنزول ملايين لا تحصى من سكان المناطق الشعبية والفقيرة، في دولة يتجاوز الفقراء رسمياً ربع سكانها.

هؤلاء ممن عانوا بشكل مباشر فساد رجال الشرطة وضروب تعذيبهم، وكانت القاعدة هي أن أي شخص منهم مشتبه به لمجرد ملابسه وهيئته. كانت هذه فرصتهم للانتقام المباشر ممن يذلونهم.

وأيضاً، أبناء هذه الطبقة تربوا على الدفاع عن أنفسهم، بالعنف، في حيواتهم القاسية. فهم الخبراء في المعارك، حرفياً، التي حدثت ضد قتلة المتظاهرين. وبينما كان يجري الشباب الطاهر هارباً من الرصاص الحي، كان الشباب، الأقل طهراً، ينهال بآلاف زجاجات المولتوف على آلاف السيارات والمباني.

أذكر جيداً حالة الصدمة التي شعر بها كثيرون، حين نشرت للمرة الأولى، تجميعاً لصور الشهداء من الطبقات الأدنى، ملابس رخيصة، و"شبشب"، منهم من لم يكمل تعليمه، ومنهم من كان يعمل بمهن متواضعة.

من المهم هنا أن نشير إلى أن هذه الرواية تكاملية وليست إقصائية؛ نوعان من المتظاهرين كان موجوداً، كلاهما صنع المشهد، وكلاهما أبطال. النار لم تكن ستندلع أبداً من دون شرارة، لكن الشرارة بالتأكيد لم تكن هي النار.

لكن ما حدث هو أن المهمشين اجتماعياً، ظلوا مهمشين ثورياً، لا يظهرون على الفضائيات، لا أحد منهم يمكنه أن يتحدث بحكمة ويقول "في الواقع...". لا يملكون تنظيراً سياسياً لمطالبهم. حتى لوكانوا هم بأنفسهم لن يتحدثوا، كان يجب أن يأخذوا نصيباً من النقاش السياسي والإعلامي أكبر بكثير مما نالوه.

ما صدر عنهم، هو فورة غضب رهيب تلقائية، لا يوجد أي جهة تتحكم بها، لا يوجد أي شخص يملك التأثير عليها، انجرافها للعنف ليس خياراً عقلانياً يتم اتخاذ قرار بشأنه من أي جهة، بل هي نتائج لمسببات كل ما نملكه هو دراستها؛ ببساطة هو فعل "ثورة".


الرواية الثالثة: الثورة الإخوانية

حاول الإخوان لفترة لم تَطُل، نسبة الدور الأكبر في الثورة لأنفسهم، في البداية كرروا بإلحاح بالغ نغمة: نحن وحدنا من حمينا الميدان في يوم موقعة الجمل، ولولانا لسقط الميدان في يد مؤيدي مبارك وانتهى كل شيء.

ثم بدأت تظهر نغمة أننا من بدأنا الثورة أصلاً؛ حيث اشتهرت تصريحات القيادي الإخواني عصام العريان، بذكره أنه صاحب فكرة التظاهر يوم 25، ومشرف صفحة "كلنا خالد سعيد"، عبد الرحمن منصور، ينتمي للإخوان، فرد عليه عبد الرحمن نافياً، وقال إنه انفصل عن الإخوان منذ سنوات طويلة. لكن العريان كررها مرة أخرى، فكرر عبد الرحمن النفي.

قبل ذكرى 2013 عاد عصام العريان ليتحدث عن دعم قيادة الجماعة لشبابها الذين بدأوا التظاهر بيوم الثورة الأول، وذكر بالاسم إسلام لطفي، احمد عبدالجواد، محمد القصاص، وهم من مؤسسي ائتلاف شباب الثورة وقتها، وأن مكتب الارشاد قد استدعاهم لذلك. رد إسلام لطفي وقتها نافياً ما حدث، وقال أنهم نزلوا كأفراد ولم يستدعهم أحد. وللمفارقة، قامت الجماعة بفصل الثلاثة.

على الجانب الآخر، ظهر خطاب معادٍ للغاية للإخوان إلى حد تجريدهم بشكل كامل من هذا "الشرف الثوري"، كأنهم لم يكونوا بوضوح شركاء الميدان.

مع الوقت والأحداث الكبرى التالية، تم تجاوز هذا الصراع تماماً، واختفى كل هذا الجدل، خاصة مع استخدام الدولة لرواية "المؤامرة الإخوانية"، فلم يعد من صالح الإخوان التضخيم من دورهم كي لا يُستغل هذا ضدهم.


الرواية الرابعة: المؤامرة الإخوانية
 
هذه الرواية تحولت من الهامش إلى المتن، وتكاد تصبح الرواية الرسمية حالياً، ويعمل لأجل ترسيخها عشرات الإعلاميين والكتاب. للأسف يثبت المثل الشعبي المصري "الزن على الودان أمر من السحر" فعاليته دائماً.

الثورة هنا لم تحدث أصلاً، فقط مجموعات من الشباب الطاهر هتفوا بتهذيب، أما كل أعمال حرق المركبات والأقسام واقتحام السجون، وكل قتل المتظاهرين البالغ حوالي 1000 شهيد، كل هذا قامت به جماعة الإخوان مع حلفائها الدوليين المتعديين، بهدف تقسيم مصر وتدميرها.

وصلت قمة الاعتراف بهذه الرواية في حيثيات حكم تبرئة الرئيس المخلوع حسني مبارك، الذي أصدره المستشار محمود الرشيدي، والذي خصص فصلاً كاملاً بعنوان "السياق التاريخي للحكم"، جاء فيه أن معلومات المحكمة التي حصلت عليها من "حكماء الوطن وولاة الأمور" تؤكد "نشوء المخطط الدولي الأميركي والعبري ومن شايعهم، للنظام السياسي المسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، والمعتمد إيجازاً على تقسيم الدول العربية لأكبر عدد من الدويلات الصغيرة". وأن "محور الشر المؤلف من أميركا وإسرائيل وإيران وتركيا وقطر" قد قام بتنفيذ تلك المؤامرة في العراق بطريقة الغزو، أما في مصر نحن نشهد الطريقة الثانية: "حروب الجيل الرابع، فقامت المنظمات الدولية بتدريب قلة من الشباب على الاحتجاج والاعتصام والعصيان المدني والتظاهرات، لشل بلادهم وتعطيل العمل بها".

وعن ملايين المتظاهرين، فقد كانت رؤية المحكمة أنهم "تجييش الغوغاء، ومثيري الشغب، والمسجلين جنائياً، والخارجين عن القانون، وخليط من المواطنين البسطاء، ممن يعانون من سوء معاملة الشرطة أو مسحوقين بصنوف العذاب في شتى مناحي الحياة".

الإشكالية الكبرى التي يتجاهلها مروجو هذه الرواية أن أعلى مستويات الدولة المصرية قد اعترف بالثورة، ولدينا مئات البيانات واللقاءات الصحافية لقادة الجيش والمجلس العسكري منذ أيام الثورة الأولى وحتى عهد الرئيس الحالي يمتدحون الثورة وعظمتها وجمالها.


الواقع مرآة التاريخ

أهمية هذا التاريخ القريب، تكمن في ما يتوجب استيعابه داخل مختلف عقليات الأطراف الفاعلة.
بسبب ترسخ رواية "ثورة الشباب الطاهر"، أصبحت مظاهرات وإضرابات العمال والموظفين لتطهير مؤسساتهم أو رفع أجورهم مجرد "مظاهرات فئوية" يجب قمعها من أجل "عجلة الإنتاج"، ويتقبل عامة المجتمع كلام المجلس العسكري عن ذلك مراراً. وأيضاً أصبح أي انجرار للتعامل العنيف التلقائي مع الشرطة منسوباً إلى "بلطجية"، حتى أن البعض صراحةً قال أن الشهداء المقتولين أمام الأقسام، هم بلطجية ويجب استخراج صحيفة الحالة الجنائية لهم.

وأيضاً أصبح هناك توجه عام، يقول بأن أي مسيرة أو مظاهرة يجب أن يتحكم بها، الداعي لها، أو حتى أي شخصية شهيرة، بشكل مطلق، ويمكن تحميله كل المسؤولية بعدها.

ورواية "الثورة الإخوانية" كانت ستؤدي للمزيد من استعلاء قواعد الإخوان على معارضيهم، فهم أصحاب الفضل الأكبر، أو بالعكس استعلاء معارضيهم عليهم إذا جردوهم من كل فضل!

أما رواية "المؤامرة الإخوانية" فهي الأكثر خطورة، لأنها وبخلاف الروايات السابقة التي تعتمد على وقائع حقيقية لكنها مجتزأة، فهي تبني واقعاً كاملاً مُتخيلاً.

في هذا الواقع لم تحدث ثورة أصلاً، لم يهزم الشعب الشرطة في مواجهة مباشرة، لم يجبر الرئيس على التنحي، لم تخطيء الدولة في أي شيء، بل بالعكس "كتر خيرهم" أفشلوا المؤامرة بدلاً من تحولنا إلى سوريا والعراق. كان مبارك بطلاً نبيلاً، وكان حبيب العادلي وضباطه ملائكة، وأي تقصير في أي ملف هو بالتأكيد هين جداً لأننا مازلنا نواجه المؤامرة.
يريدون إقناع أنفسهم، قبل الآخرين، أنه لم يكن هناك "شعب يريد". لكن رغم رحيل دخان الحرائق فإن الشعب لم يرحل بعد، ومازال "يريد" .....
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها