السبت 2015/01/03

آخر تحديث: 16:36 (بيروت)

العراق: العفوية الشعبية تفك القيود السياسية

العراق: العفوية الشعبية تفك القيود السياسية
من أجواء الاحتفالات في أربيل (تويتر)
increase حجم الخط decrease

عَبَرَ العراق عام 2014 مسجلاً ظاهرة جديدة، اشارت الى احتمالات تغيير عميق. فالتبدل المفاجىء في نوع التعبير، وفي حجم المبادرات الشعبية العفوية ودلالتها، بلغ ذروته ليلة رأس السنة، متعدياً السقف المقرر والمفترض، حسب ما ظلت تحاول الأحزاب وكتلة القوى السياسية والمليشيات الاسلامية المتحكمة بالاوضاع بعد عام 2003 تكريسه.

آخر يوم من سنة 2014، كان أشبه بالانفجار غير المحسوب، خرج عن اي اعتبار جرى اعتماده والتواضع عليه خلال هذه الفترة؛ الطرقات ازدحمت بالحشود، وبانفلات التعبير عن الفرح، والبهجة، وبممارسة المحرم الممنوع، الّذي كان مبعداً ومحرماً كلياً قبل أيام، حين كان الشيوخ المتجهون الى مرقد الامام الحسين في كربلاء، يملأون الطرقات، تواكبهم الجهات الحكومية  بقطع الطرقات حسب الاهواء، وتحت سطوة مقدس يعلو على اي قانون او اعتبار.


فالوقت لم يطل لأكثر من أسبوعين، مرا على تظاهرة زيارة صفر الهائلة (قالت التقديرات المبالغة انها تجاوزت ال 20 مليوناً)، حتى انطلقت عشرات الألوف من السيارات ليلة رأس السنة، في تعبير عفوي، طغت عليه سمة الرغبة  في الاعلان عن التحرر من أي وطأة مفروضة، أو تنتسب إلى التقليد وإلى الرضوخ والتسليم لبداهة المقدس. فاكتظت أحياء الكرادة والجادرية، رغم ان الاخيرة معقل لاحدى القوى الإسلامية، بعشرات الآلاف من المحتفلين بالعام الجديد، بطريقة  تتعمد الإشهار، وتتقصد القول إن شيئاً ما ينبغي أخذه اليوم بنظر الاعتبار، لا يخلو من معنى الاحتجاج باسم المقابلة والمقارنة التي  تطرأ حتماً على البال، إذا ما قيس الفرق بين حالة الأمس، وواقع اليوم الذي يبيح المحرم.


ظل الشبيبة يوقفون سياراتهم في الطرقات، وينزلون للرقص، وقد رفعوا أصوات مسجلاتهم إلى أعلى حد، ما أجبر بقية السيارات على التوقف إلى حين انتهاء وصلة الرقص، وغالباً ما كانت الحلقات تتسع  بترك الآخرين سياراتهم والالتحاق بالراقصين. كما أن الألعاب النارية ملأت سماء بغداد، وحيثما كانت مناطق الكرادة والجادرية والمنصور تعج بعشرات الاف المحتفلين، فإن سماء الاحياء الاخرى ظلت مغطاة بألوان الالعاب النارية وبالساهرين.


أهم ما كان يلفت النظر هو الرغبة الطاغية بالتعبير بالحركة. فلا أحد أراد، أو جرب أن يرفع شعاراً، أو أن يضع عنواناً لما يقوم به، مع أن ما كان يفعله ينم عن رغبة صارخة بالتحرر من وطأة ما، ومن  ثقل إلتزامات خانقة.


لم تعرف ليلة رأس السنة أي عملية تفجيرانتحاري مثلاً، مع أن تحذيرات وتهديدات ترددت خلال النهار شفهياً، أو عبر بعض المواقع الالكترونية، ما فسره البعض على أنه صادر عن بعض المليشيات، بسبب كون انتهاء السنة يصادف يوم وفاة "الحسن العسكري"، الامام الحادي عشر الشيعي، ما جعل ضخامة الاحتفال وطبيعة الممارسات التي  تخللته، تكتسب طابع الاحتجاج الأكيد والمباشرعلى وطأة الشعائر الطقوسية المستفحلة، والتي يضعف مصداقيتها ويضفي عليها التناقض، استفحال موازٍ لممارسات الفساد والفوضى وفداحة الأخطاء.


نوع المحتفلين وكونهم في الغالب من الشبيبة، جعل إظهارهم لرغبتهم الاحتفالية الحرة، المشحونة بالتمرد، تقاس بالمقارنة بحالة ونوع الكتل التي احيت قبل ايام من نهاية السنة مناسبة الزيارة الحسينية، خصوصاً وأن الاختلاف بين الوسطين والكتلتين صارخ عمرياً، وعلى مستوى نمط الممارسة، ما بين المشي والبكاء واللطم الحزين، مقابل الغناء والرقص، وتعمد إشهار تناول الكحول، ما يضع المراقب أمام حالتين ومجتمعين متباينين ومتباعدين كلياً.


مع أن هذه الظاهرة اثارت الانتباه، غير انها لم تغر بالبحث عن أي مترتبات آنية يمكن أن  تتمخض عنها، فالتأطير المدني للنزعة، أو الطموح الكامن خلف هذه المناسبة،  يبدو أقرب للمستحيل سواء إذا جرى الحديث عن منظمات المجتمع المدني، أو الأحزاب والقوى العاملة خارج "العملية السياسية الطائفية". فالأحزاب المذكورة مشتتة، ورؤاها مغرقة بثقل مقاربات وأسس تنتمي للماضي، وهي صغيرة ومبعثرة، وتأثيرها وقدرتها على التفاعل مع المستجدات، شبه منعدم، ما يجعل فرص تطور الظاهرة الأخيرة وماتفصح عنه أمراً مستبعداً، ولو أنها  سجلت حقيقة تقول بإن محاولة الايحاء بالتطابق بين رؤى وتصورات الأحزاب والتيارات والمليشيات الإسلامية المتنفذة، وبين الكتلة الأكثر حيوية وشباباً من المجتمع، غير صحيحة على الإطلاق.


هذه الحقيقة أضافت للمشهد العراقي حيوية، وألقت عليه تعقيداً آخر، أضيف لجملة من التعقيدات والمفارقات المتداخلة، المفتقرة كلها لإمكان التحول إلى قوة، أو عنصرٍ رئيسي، الأمر الذي يجعل منها معطى إضافياً، ضمن مشهد يزداد مع الوقت تأزماً من دون مخارج، أو احتمالات مطمئنة يمكن أن تؤدي إلى انتقال نحو بداية تتسم بالإستقرار؛ والجديد الذي يلفت الانتباه اليوم، هو تعدد المؤشرات الدالة على قوة تجاوز الواقع، للسقف الذي تواصل القوى المتنفذة الاصرارعلى تكريسه وفرضه، ما قد يبرر الاعتقاد أن الحقبة التي عاشها العراق بعد 2003، لم تعد قابلة للاستمرار على ماهي عليه، وان هذه المرحلة  في طريقها الى التراجع.   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها