الإثنين 2017/09/25

آخر تحديث: 14:47 (بيروت)

أظهروا شجاعتكم.. أيها الألمان

الإثنين 2017/09/25
أظهروا شجاعتكم.. أيها الألمان
شهدت برلين تظاهرات ضد اليمين المتطرف (AFD) بعدما أظهرت نتائج الانتخابات حصوله على 13% من الأصوات (غيتي)
increase حجم الخط decrease
تقول صديقة ألمانية، بعدما بدأت نتائج الانتخابات بالصدور: "أعتقد أننا بحاجة إلى جدار جديد بين الشرق والغرب الألمانيَين". للحظة، سرت تلك الدعابة كنبوءة شؤم، سرعان ما بددها جو من الضحك المفتعل. لكن تعليق الصديقة الألمانية لم يأت عبثاً، فنسبة 27 في المئة من الألمان في المقاطعات الشرقية صوتت لحزب أقصى اليمين المتطرف، ليتصدر النتائج في مقاطعاتهم.

المفاجآت لم تتوقف في الانتخابات الالمانية، مع تراجع تاريخي لأحزاب "الاستابلشمنت" كحزب الاتحاد المسيحي الديموقراطي والحزب الديموقراطي الاشتراكي، وكذلك للخُضر وأقصى اليسار، في مقابل صعود تاريخي لليمين المتطرف المُعادي للمسلمين والغرباء. وحدهم الليبراليون تمكنوا من العودة إلى البوندستاغ، بعدما كانوا قد خرجوا منه في الدورة الماضية.

الغريب أن تلاعب اليمين الألماني المتطرف، بالخوف من الغرباء، جلب له أعلى نسبة تصويت في الولايات الشرقية، والتي تكاد تخلو من موجة المهاجرين الأخيرة، خصوصاً من السوريين. قد يعود ذلك جزئياً إلى مسار مغلوط سلكَه الشرق الألماني، مع رفض الحكم الاشتراكي الموالي للكرملين، طيلة عهد الشيوعية، الاعتراف بمسؤولية الألمان عن جرائم النازية. فتحميل مسؤولية فظائع النازية لآخرين، لا يمتّون بصلة للمجتمع الاشتراكي الصحيح والمعافى، وعدم إقامة محاكمات لكبار مسؤولي النازيين، وتعليم أجيال متلاحقة على طمس الحقائق والانكار، لا يجعل من موضوع التعاطف مع الآخرين أمراً مستساغاً. وليس غريباً أيضاً انتقال الشرق من دائرة اليسار الشيوعي، إلى اليمين المتطرف المحافظ، طالما أن القطبين يحافظان على علاقات جيدة مع الكرملين.

نتائج الانتخابات، وإن كانت متوقعة، أحدثت صدمة كبيرة في برلين وعموم المدن الكبرى. ربع الألمان صوّت فعلياً لليمين المتطرف أو لأقصى اليسار. دخول النازيين الجدد إلى البوندستاغ، انقلب حزناً في الشوارع، فلم يتداع أحد للاحتفال في الأماكن العامة، واقتصرت التجمعات على مناصري الأحزاب في مقراتهم. لكن، هل نسبة 13 في المئة، التي حصل عليها اليمين المتطرف، كافية لبث الذعر في أوساط النخب الثقافية وبقية الأحزاب الألمانية؟

بعض الأوساط المصدومة من النتائج لا تتردد في القول إن الاكثرية ليست بالضرورة على حق، وإن وصول النازيين هو دليل على غباء بدأ ينتشر في المجتمع الألماني، قائم على قبول التخويف من الآخرين كقاعدة في السياسة. إلا أن وصول ما يقارب 90 عضواً من حزب نازي إلى البرلمان، هو فرصة لإدخاله في السياسة، بدلاً من وقوفه على الهامش وتنظيره المتفاني حول البدائل الممكنة للشعب الألماني. عملية تفريغ خطاب النازيين، ستكون مهمة بقية القوى، إن أرادت تطويعهم في نظام ديموقراطي بوصفهم قوة غير ديموقراطية. الأمر ليس بهذه البساطة طبعاً، فقد سبق للحزب الاشتراكي النازي، بزعامة هتلر، أن فاز في انتخابات ديموقراطية في العام 1933 قبل أن ينقلب على الديموقراطية ويؤسس للحكم الشمولي. المقارنة لا تبدو ممكنة في هذه اللحظة، بين الأجداد والأحفاد من النازيين، عندما نعرف أن زعيمتهم مثلية الميول الجنسية لا تخجل من اصدار بيان باسم الحزب ضد زواج المثليين. كراهة الذات تبدو جزءاً من كراهة الآخر.. جزءاً أصيلاً.

الأسئلة المستحوذة على النقاش العام عقب الانتخابات، تبدو متمركزة حول مفهوم النظام الديموقراطي، وعيوبه. فما هي عتبة التسامح مع قوى لا تؤمن بالاختلاف وتقوم أفعالها الافتراضية على عدم التسامح؟ العيب في الديموقراطية الغربية، هو في سماح السيستم بوصول ممثلي هذه الأراء إلى البرلمانات، ما يضفي على تلك الآراء شرعية رسمية مختلفة عن مجرد التبشير الأصولي في الشوارع ووسائل التواصل الاجتماعي.

حدود موجة الارتداد اليميني، الرافضة للعولمة وللقيم الغربية الليبرالية، والمعادية للمهاجرين والغرباء، لا يبدو أنها ستنحسر قريباً، مع وصول شعبويين إلى سدة الحكم في أميركا، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والانهيار المريع للأحزاب التقليدية في فرنسا. تزاوج الشعبوية واليمين المتطرف، أنتج خطاباً قادراً على التحايل على ما كان يفترض أنه قيم عالمية، فباتت دعايات اليمين المتطرف في ألمانيا تقوم على موضوعة الهوية. في ملصق ترويجي لخطاب اليمين، تظهر نساء يرتدين البكيني، والشعار يقول: "يريدوننا أن نرتدي البوركيني". شيء مماثل يتحدث عن النقاب. السياسة انتقلت فجأة، من ميدان الحريات، إلى موضوعة الهوية. هذا الانزياح البسيط ظاهراً، قد يشتت الانتباه عن عمق الأزمة. الآن صار الحديث متاحاً في ألمانيا عن "نحن" و"هُم".. قيمنا وقيمهم.. وجودنا ووجودهم..

مأزق القوى الديموقراطية الليبرالية يبدو أعمق. وعدا عن فشلها في رفض سؤال الهوية ونقله إلى خانة الحريات، فقد تمكن اليمين المتطرف إلى استدراجها أيضاً إلى مطب آخر: إذا ما رفضت تلك القوى التعامل مع اليمين المتطرف ممثلاً للمعارضة أو مشاركاً في الحكومة، فستبدو أنها لا تقل يمينيةً عنه. رفض الآخر بات خطراً يهدد الجميع، وصار انزياحاً إلى اليمين يطبع كامل المجال السياسي الغربي.

في متحف عن جدار برلين، تُستعاد برامج تلفزيونية في ألمانيا الغربية بُثّت عشية العام 1989. وتحت سطح الاحتفال العالمي بانهيار الجدار، تشير هذه البرامج إلى خوف سَرى ضمن الرأي العام الألماني الغربي، من هجوم الشرقيين عليهم. الخوف من فقدان الوظائف والبضائع وانهيار مستوى المعيشة، إبان التوحد بين الألمانيتين، لم يمنع المصالحة، ولا منع انتقال ألمانيا إلى مرحلة جديدة من استكمال معجزتها بعد الحرب الثانية. قد يبدو ما يحدث اليوم، أكبر من غيمة في سماء صافية، إلا أن الذعر الذي يحدثه يجب أن يتحول إسهاماً في تصويب الجدل والفعل السياسي، وليس في شلّ كامل المنظومة الديموقراطية. فلا وجود فعلياً للألمان بالدم، إلا في مخيلة مَن لم يتعلموا من تاريخ ألمانيا شيئاً، ولا من هزيمة النازية والشيوعية، كعقائد شمولية تقوم على وهم التجانس والمجتمعات الصافية عرقياً أو إيديولوجياً، وعلى "نحن" و"هم"، والعداء الأبدي بيننا.

في الشوارع، وتعبيراً عن النصر، طبع مناصرو اليمين المتطرف على الأرض عبارة "أيها الألمان... أظهروا شجاعتكم". العبارة تبدو أكثر من مضحكة، إذ تطالب بالتغلب على الخوف الذي زرعته النخب السياسية، والانتصار مجدداً للدم الألماني النقي. مُضمر الطلب مفزع، كما أن الفيل، هذه المرة، غادر غرفة النقاش والأفكار، ودخل البوندستاغ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها