الإثنين 2017/07/03

آخر تحديث: 13:53 (بيروت)

"داعش" في الرقة بين"عتق السبايا" و"الاصطفاء الطبيعي"

الإثنين 2017/07/03
"داعش" في الرقة بين"عتق السبايا" و"الاصطفاء الطبيعي"
قوات خاصة تشارك في معركة الرقة (تويتر)
increase حجم الخط decrease
شنّت "قوات النخبة"، ليل الأحد/الإثنين، هجوماً على سوق الهال في مدينة الرقة، بعد تمهيد جوي كثيف من طيران "التحالف" كان قد حوّله إلى كومة من الحجار. "وحدات حماية الشعب" الكردية، عبرت نهر الفرات من الضفة الجنوبية، وتمركزت داخل حي الهال في نقطة نيران جديدة لها.

وأحكمت "قوات سوريا الديموقراطية" و"قوات النخبة" القبضة على جهات مدينة الرقة الأربع، وعززتا ذلك بالسيطرة على قرية رطلة جنوب شرقي المدينة، فانعدم أمل التنظيم باختراق الجبهات. لذا، يحاول تنظيم "الدولة الإسلامية" شنّ هجمات معاكسة وسريعة، يبرع فيها، لتوسيع رقعته الجغرافية لدفع الخطر عن وسط المدينة التي ستكون تحت مرمى النار في أول هفوة منه، فكان لا بد له من الحفاظ على مسافة أمان. فسقوط مركز الرقة لا يعني فقط سقوط التنظيم في المدينة فحسب، بل سقوط اسطورة "الخلافة". وبخمس مفخخات استعاد تنظيم "الدولة الإسلامية" حي الصناعة ودوار البتاني، قبل أيام، بعدما خسرهما في معارك استمرت 15 يوماً. السيطرة على الصناعة كانت قد كلّفت "قوات سوريا الديموقراطية" و"قوات النخبة" عشرات القتلى والجرحى، وشاركت فيها طائرات "التحالف الدولي" والصواريخ البالستية، وقوات المارينز والمدفعية الفرنسية، وراح ضحيتها 170 قتيلاً مدنيّاً.

فرار بعض عناصر التنظيم واستسلام البعض الآخر، صبّ فعلياً في مصلحة التنظيم، فلم يبقَ من مقاتليه إلا أصحاب العقيدة "النقية" المشبعين بأفكار الجهاد والباحثين عن الشهادة. وهذا "الاصطفاء الطبيعي" أراح التنظيم من المتردد والمُخترق من عناصره، لتبقى في صفوفه الكتلة البشرية الصمّاء.

ويبدو أن التنظيم غير مكترث لمسألة الحصار، ولا مقاتليه مهتمون بذلك إذ يعتبرون أنهم على موعد لـ"لقاء ربهم في جنة عرضها السموات والأرض"، وأنهم هنا لتنفيذ "أوامر الله" في "اقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة" أو الهلاك دونها. أبو أحمد الاسترالي، لبناني الأصل، يقول في درسه بعد الصلاة، وهو يشاهد الطائرات تملأ السماء: "يبدو أننا استعجلنا وأن وعد الله لم يحن في معركة دابق بعد. ولكن لنا أجر المبادرة، ونحن نبعث على نيتنا، ويكفينا عند الله أننا زرعنا الافكار الجهادية بعقول وقلوب أطفال المسلمين بعد دهر من الذل والخنوع".

وعمد التنظيم إلى توزيع المواد الغذائية والذخيرة والوقود على جميع أحياء المدينة الـ26، بحيث أن خسارته لحي ما لا تعني سوى خسارة جزء من مستودعاته، وبقاءه في حي واحد مُجهّز بالأغذية والأسلحة والمعدات الطبية، تكفيه للاستمرار في القتال. لذلك، فإن كل حيّ بات منظومة كاملة منفصلة عما يجاوره، وقد سبق أن أحضر التنظيم عشرات الشاحنات المحملة بالحبوب والمعدات من مدينة الباب والطبقة، وزّع قسماً منها في مستودعات ضمن الأحياء ربما تكفيه لشهور، وشحن الباقي نحو مدينة الميادين.

إلا أن التنظيم بات عبارة عن دولة محمولة على سيارات "بيك آب" لا تملك إلا بنادق وعبوات دهان، ومجرد خروجه من منطقة ما، تنمحي آثاره مباشرة، بعدما عمل عليها طيلة السنوات الثلاث الماضية، وقطع لأجلها الرؤوس ونفّذ فيها عمليات الصلب والجلد والرجم. الرجال يحلقون لحاهم ويُشهِرون سجائرهم بعد دقيقة واحدة من مغادرتهم مناطق التنظيم، أو انسحاب التنظيم من مناطقهم. كل مدني يُقدّرُ له الخروج من مناطق سيطرة التنظيم، رجلاً كان أو امرأة، سرعان ما يعود إلى حياته السابقة قبل عهد "الدولة الإسلامية". الأمر الذي أحبط عناصر التنظيم، لدرجة أن يقول مقاتل سعودي، عاتباً: "نحن تركنا أهلنا وبيوتنا وأتينا لتطبيق شرع الله. وبعدما ظننا أننا فعلناها، ما أن نغادرهم أو يغادروننا حتى يعودوا إلى ما كانوا عليه".

التنظيم أصبح عنيفاً وشرساً في قتاله، مثل الضباع الجريحة. أحد مقاتلي "قسد" السابقين، قال لـ"المدن": "20 مقاتلاً من قسد هاجموا نقطة في منطقة مساكن الادخار فكان بانتظارهم حزام ناسف وسيارة مفخخة، ليعود منهم ثلاثة فقط. لذلك، تركت القتال ولي بذمة الأميركان رواتب شهرين لا أريدها. لا أريد الموت في هذه الحرب. إنهم يخرجون لنا من بين الحجارة، من خلف الاشجار، من أماكن لا يمكن توقعها. تتمنى أن يقتلك مباشرة بطلقة على ألا يأسرك حياً، لتكون بطلاً في احد اصداراته المرعبة".

عناصر التنظيم بدأوا التخلص من الأحمال الزائدة، والاعتماد على ما يوضع في جيوبهم. محمد الذي يعمل بالصرافة وتحويل العملة، وتمكن من مغادرة الرقة قبل يومين، قال لـ"المدن"، إنه سلّم حوالة لامرأة بمبلغ 4 آلاف دولار، وعندما طلب منها اثبات شخصية اخرجت ورقة كُتبَ في ترويستها: "صك عتق"، وتبين أنها كانت "سبيّة" قد "عتقها سيدها" ودفعت ثمن حريتها بحوالة مالية، ربما من أهلها. التخلص من "السبايا" صار منتشراً، فلا مشترين لهنّ في هذه الظروف. على الأقل بات بامكانهنّ الدفع لـ"أسيادهنّ" لقاء "العتق". المرأة التي اشترت حريتها بـ 4000 دولار، كانت حريصة على ورقة الـ"صك عتق"، تضمها إلى صدرها بحقيبة في يدها، قبل أن تستعجل الرحيل. يتابع محمد: "قالت إنها ستغادر مباشرة بعد صلاة الظهر، وبقي أن تمهر الصك بختم الوالي. وفي تلك الظهيرة قصف الطيران مجموعة من القوارب العابرة، فقتل البعض ونجا أخرون. لا أدري إن كانت تلك المرأة قد لاقت حتفها أم وجدت طريقها إلى الحرية".

أهالي الرقة المحاصرين من الجهات الأربع، يُحاصرهم التنظيم أيضاً، وكلما انسحب من نقطة أخذهم معه كرهائن. أهالي الرقة باتوا في تحدٍ دائم، بين الحياة والموت، أمام عشوائية قذائف "قسد" وعشوائية سواطير التنظيم، وعشوائية القدر.

الخروج من المدينة يتطلب من الهاربين ركوب الزوارق نحو قرية رطلة، من جهة الفرات الجنوبية، ومن ثم تسلق جبال الشامية، والانعطاف غرباً نحو مدينة المنصورة. أحد الهاربين الناجين، قال لـ"المدن"، إن الرحلة استغرقت يومين، وتتطلب النجاة فيها أن تكون من المحظوظين والأصحاء، أو تجد من يحملك أن كنت عاجزاً أو كبيراً بالسن، وألا تكون طريداً لـ"داعش" أو فريسة لطيران "التحالف" أو هدفاً لقناصة "قسد". أغلب كبار السن، ممن بقوا في المدينة، جهّزوا أكفانهم، وكتبوا وصيتهم، بعدما أدركوا أنهم سيهلكون قبل أن تنتهي هذه الحرب، وتفرغوا للدعاء والابتهالات والصلاة، على أمل الفرج والنجاة أو حسن الختام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها