الثلاثاء 2017/05/23

آخر تحديث: 14:40 (بيروت)

ليس بإيران وحدها يحيا الإرهاب

الثلاثاء 2017/05/23
ليس بإيران وحدها يحيا الإرهاب
القومية العربية بوجهها الفاشي، والإحياء الإسلامي بوجهه السلفي الجهادي، كانا الصورة والنقش للعملة ذاتها (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
خلصت اجتماعات القمم في الرياض، إلى أن إيران هي مصدر الإرهاب، وسبب زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. مجموع القمم السعودية والعربية والاسلامية مع الإدارة الأميركية الترامبية، وفي قراءة لأبرز عناوينها، فشلت في مقاربة أسباب الإرهاب العميقة، إذ لجأت إلى المشجب الأسهل؛ إيران.

صحيح أن لإيران دوراً تخريبياً من العراق وسوريا ولبنان إلى اليمن والبحرين، مروراً بفلسطين. ولكن، هل تملك إيران فعلاً هذه القدرة السحرية على زعزعة منطقة أساسية من العالم، من دون توافر أسباب الخلل الذاتية؟

لإيران أذرع مليشياوية طائفية في الشرق الأوسط تستقوي بها على الدول، أو ما تبقى منها، وتعيد تشكيل الجغرافية السكانية لها، وتهندس لعمليات التهجير القسري، والتغيير الديموغرافي، والتطهير العرقي. شبكة علاقات إيران المليشياوية تمتد من "حزب الله" اللبناني إلى "العمال الكردستاني" التركي، وما بينهما من مليشيات في سوريا والعراق واليمن. جرائم الإبادة ضد السوريين، وتدمير حواضرهم وأريافهم، باسم الدفاع عن زينب "كي لا تسبى مرتين"، قد تكون من نافل القول. ولكن، من أين امتلكت إيران هذه القوة؟ وكيف أمكنها اختراق المنطقة مثل سكين حام في قالب زبدة؟

المشرق العربي، خاصة العراق وسوريا، ومنذ تأسيسه السياسي، بعيد الحرب العالمية الأولى، كان ميداناً متواصلاً للعنف. فمن كيانات سياسية مُختلقة مفروضة بقوة الانتداب الغربي، إلى مرحلة الدول الوطنية المستقلة، لم تتمكن النخب السياسية البرجوازية من ترسيخ شرعية لها، ولم تصمد أمام جيوشها التي انقلبت عليها مؤسّسة لحكم راديكالي، باسم الشعب. الجيش كحارس الأنظمة القديمة من شعوبها، بدأ بالانقلاب عليها، بعد نكبة العام 1948، محملاً اياها العار الذي لطخ شرف الأمة. ومع صعود القومية العربية، كعقيدة تبناها العسكر الشباب، كان الحلم بإعادة هندسة الدول القُطرية على أسس التكامل العربي، سعياً وراء الوحدة. وكلما ازداد الهاجس الخطابي الوحدوي، ازدادت النزعة القُطرية، وازداد الفصام بين الخطاب والفعل، وازداد العنف. حملات التطهير ضمن الجيش والسلطة، وحملات العنف ضد مكونات المجتمع المختلفة، من الأكراد والإسلاميين واليساريين، كانت سمات مرحلة الاستقرار. عسف الأجهزة الأمنية، والعنف البربري، صارت شكل الحكم الرمزي.

ومع فشل القومية العربية الحاكمة في تحقيق ما ادعته، بدأت الدعوة إلى السلفية الجهادية بالتمدد أفقياً في هذه المجتمعات. فمن حسن البنا إلى سيد قطب، قطع الإحياء الديني مساراً وعراً، ظل فيه مهمشاً ومستثنياً من السلطة. إحياء الفريضة الغائبة؛ الجهاد، كان الحلّ لإقامة العدل في الأرض، بعدما انتشر الفساد، على هيئة دول "علمانية" قومية.

القومية العربية بوجهها الفاشي، والإحياء الإسلامي بوجهه السلفي الجهادي، كانا الصورة والنقش للعملة ذاتها. استبطان العنف، وانتهاجه، كوسيلة وحيدة للحكم، وللإطاحة به. المتخيّل العنفي في الخطاب العروبي والإسلامي، صار نهجاً للقادم من الصراع بين الطرفين.

على هامش هذا الصراع، كان صعود حركة الكفاح المسلح الفلسطيني، كرد على الاحتلال الإسرائيلي. منذ أواخر الستينيات، بدأ الكفاح الفلسطيني ينهل من العنف اليساري لردع إسرائيل وإجرامها. الكفاح الفلسطيني، المطرود من الأردن وسوريا، وجد أرضاً خصبة في لبنان، وانقلب إلى طرف مقاتل ضمن حرب أهلية مريرة، صارت ميداناً للتدخل الإقليمي والدولي. خطف الطائرات وقتل المدنيين في الستينيات والسبعينيات، كانت أول الأفعال التي ستوسم عالمياً، بالإرهاب، رغم عدالة القضية.

الإرهاب الإسرائيلي، كان وما زال، محفزاً لجميع الحركات العنفية في العالم العربي، والتي لم تجد بديلاً في ظل انعدام التوازن، وقوة إسرائيل. عدالة القضية، صارت المشجب الذي يغذي الصراعات الداخلية ضمن المجتمعات العربية، وباباً للمزاودة، والحصول على الشرعية. من خطاب المظلومية هذا، ولد "حزب الله" كذراع إيرانية في لبنان.

قبل ذلك، اندلعت الثورة في إيران على نظام الشاه القمعي "العلماني". الخامنئي، وعدا عن إيديولوجية "ولاية الفقيه" "الثورية" التي طورها على الضد من التنوع المجتمعي الإيراني، شنّ حرباً ضروساً في الداخل الإيراني على معارضيه، ومن ثم المختلفين عنه، وحتى ناقديه. "الجمهورية الإسلامية"، قامت على العنف الداخلي، وسرعان ما دخلت في حرب إقليمية مع العراق "البعثي". في الصراع الإيراني/العراقي، بدأ أول تكريس سياسي معاصر للنزاع الهوياتي الديني؛ سني/شيعي، والذي لم يتوقف عن النمو والتصلب.

الأنظمة الملكية السلالية في الخليج العربي، كانت قد حققت نوعاً من الاستقرار الداخلي، بسبب الثروات النفطية. لكن القاسم بين الملكيات والجمهوريات في المشرق العربي، كان تضخم الدولة، بحيث أصبحت ميداناً لسياسات الضمّ والتهميش للقوى الاجتماعية والسياسية. وإذا كان الضمّ يتناسب مع زيادة الموارد، فالاقصاء دائماً ما يحدث في فترات العجز والانكماش الاقتصادي. الاقصاء غالباً ما يطال في البداية الشرائح الاجتماعية الأضعف، والأطراف السياسية المناوئة. اقصاء الشيعة في الخليج سياسياً، وضمهم اقتصادياً، ظل شكلاً لسياسة التنفيس المجتمعي. إلا أن دولة كسوريا، والتي تحولت مع الوقت إلى جامعة جوائز ومصدر متاعب إقليمي تعتمد في اقتصادها على المعونات الخارجية، رفضت ضمّ سنّة الأرياف سياسياً واقتصادياً، وابقتهم خارج "الدولة". ومن هنا بدأت السلفية الجهادية تجد أرضاً خصبة لها. الأمر ذاته معكوساً حدث في العراق، رغم الموارد المالية النفطية الهائلة.

أحداث الثمانينيات وحرب الإخوان في سوريا، والتدخل العسكري في لبنان، وسط حالة قمع داخلية مرعبة، حولت سوريا إلى دولة يحكمها العنف، ولم يعد احتكار وسائل العنف هو التعريف الأسلم للسلطة فيها، بل اخترقت الدولة المجال الرمزي للعنف، وصارت سياستها العادية الدولة تجاه المحكومين في أوقات السلم، وإرهاب الدولة هي الفيصل عند المفاصل التاريخية.

حرب الخليج الأولى والثانية، والاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، كانت خطوات إضافية لتحويل "الإرهاب" شكلاً يومياً للسياسة، في المشرق العربي. انهيار نظام صدام حسين، وتحول بقايا السلطة السنية إلى "المقاومة" الإسلامية، كانت فاتحة دخول "القاعدة" إلى البلاد. من "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" إلى "مجلس شورى المجاهدين" إلى "الدولة الإسلامية في العراق" كانت السلفية الجهادية تحفر مسارها التاريخي. في المقابل، كانت إيران تدعم وتسلح وتمول المليشيات الشيعية، وتستنهض الشيعة، لتقاتل بهم الاحتلال الأميركي الذي جلبهم للحكم، وتقاتل بهم للسيطرة على كامل العراق. مليشيا بدر والإمام كانتا مفتاحاً لمئات المجموعات المسلحة الأخرى، والتي لا تقل تطرفاً وإرهاباً عن أخواتها في الرضاعة من السنة.

لكن "القاعدة" ليست وليدة البارحة، فالاحتلال السوفياتي لأفغانستان، والدعم الأميركي والعربي لـ"مجاهدي الحرية" كان تأسيساً لـ"القاعدة" على أرضية أفكار سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وعبدالسلام فرج، وهي التي نقلها "المجاهدون العرب/الأفغان" معهم، في رحلة هروبهم إلى أفغانستان، والتي شاركت فيها جميع الاستخبارات العربية. عبدالله عزام وأبو مصعب السوري وغيرهم، هم تلاميذ الحرب الأفغانية، ومعلمو الجيل الجديد من الجهاديين في الجزائر وبعدها العراق وسوريا.

العنف صار مدخلاً للسياسة، كوسيلة رفض المهمشين الإسلاميين للسلطة، وطريقتهم الوحيدة للدخول في "الدولة" من باب قلبها. العنف الذي قادته الدول العربية والإسلامية ضد التيارات الإسلامية المعتدلة فيها، وتفضيلها الحركات الصوفية وإسلام الأنظمة، تحول إلى تبني المهمشين لأكثر الأفكار تطرفاً، والقائمة على تكفير الأخر والمجتمع، واستباحة دمه. فعل إرهاب الدول ضد مواطنيها الكافرين بها، سرعان ما انقلب ضدها، والتقى النقيض بالنقيض.

رعاية النظام السوري لتدفق المتطرفين إلى العراق، حوّل سوريا إلى مجمع عالمي مستقطب للسلفيين الجهاديين. وما كان سجن صيدنايا إلا أكاديمية حقيقية، يتم فيها انتقاء الأفكار الأشد تطرفاً، وتطويرها، قبل أن يتم إرسال خريجيه إلى الدول المحيطة. النظام السوري برعايته السلفيين الجهاديين، حاكى بذلك ما قام به من رعاية الحركات اليسارية المتطرفة في السبعينيات، من أمثال كارلوس وأبو إياد ومنظمة أيلول الأسود، أثناء "وصايته" على القضية الفلسطينية. حتى لـ"العمال الكردستاني" كانت له معسكرات تدريب في سهل البقاع اللبناني.
وكما سجن صيدنايا العسكري، كان سجن بوكا في العراق، برعاية أميركية. هناك اختلطت أصفى السلالات السلفية الجهادية، قبل أن ينتج عنها "الدولة الإسلامية في العراق" الأم الحنون لـ"داعش" لاحقاً.

"حزب الله" اللبناني والسوري والعراقي، ومئات المليشيات الشيعية في سوريا والعراق، ومنها الأفغانية والباكستانية وتضم عناصر عربية من السعودية والبحرين، لن تمثّل بدورها سوى معادلٍ لـ"العرب الأفغان". وسرعان ما سينتشر التطرف الشيعي إلى خارج المشرق العربي، محمولاً على راية "ولاية الفقيه" بانتظار خروج المهدي.

الرئيس عبدالفتاح السيسي، أحد أهم المشاركين في افتتاح "مركز اعتدال لمكافحة الفكر المتطرف" كان قد قام بانقلاب عسكري باسم الجيش، أطاح فيه بحكومة منتخبة. السيسي أمر بفض اعتصام ميدان رابعة، وقتل فيه آلاف المعتصمين العزل. نظام السيسي طارد "الإخوان المسلمين" وطهّر الدولة منهم، واعتقل منهم عشرات الآلاف. أحكام الطوارئ التي ينفذها النظام المصري، ليست في الواقع سوى محاولة لمنع انهيار الدولة، الغارقة في الفقر والفساد والفوضى. نظام يخوض حرباً مدمرة ضد سكان سيناء، من دون تمييز، ويستثمر في المقتلة ضد الأقباط وسكان المدن، للاستمرار في السلطة. وعلى النقيض، ففي تركيا، وبعد الانقلاب الفاشل، شنّت حكومة "العدالة والتنمية" عملية تطهير واسعة في صفوف الدولة والجيش، وطالت المؤسسات الخاصة والمجتمع المدني. العنف ضد "العمال الكردستاني" في تركيا، ليس العنف الوحيد ضد المجتمع.

صحيح أن لإيران دوراً هائلاً في الإرهاب في المشرق العربي، لكنها، ليست وحدها من زرع بذور الشقاق والأزمة. فدول المشرق العربية الهشة حد الضراوة، لم تمتلك يوماً شرعية، أبعد من شرعية إرهاب مجتمعاتها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها