الخميس 2017/03/30

آخر تحديث: 09:21 (بيروت)

زائلة.. وتتمدد

الخميس 2017/03/30
زائلة.. وتتمدد
انكسار حركات إسلامية، تحمل بعداً مفاهيمياً "جديداً" تنهل من المظلومية، لا يمكن أن يتم بحملات عسكرية (أتلانتك)
increase حجم الخط decrease
تتكاثر هزائم "الدولة الاسلامية"، على جبهات مختلفة، من سوريا إلى العراق. وفي حين تضمحل رقعة سيطرة "داعش"، تتمدد قوى محلية، لترث الأرض التي كانت تسيطر عليها. القوى المحلية كوكلاء لأخرى إقليمية ودولية، لا تخفي عداءها لبعضها البعض، والتركيز على قتال "داعش" في المرحلة الراهنة هو إسم آخر لاقتسام ورثتها. الرجل المريض الاسلامي المتطرف، يموت، لكن وقتاً غير طويل لن يمر قبل أن ينبعث حياً من خصومات أعدائه وأزمات المجتمعات المحلية.

يحفل التاريخ الإسلامي بحركات إنكسرت عسكرياً، وكاد أن يفنى المدافعون عنها، لكنها عادت وانبعثت في صور آخرى. فالشيعية بدأت بالتطور إلى مذهب، والانتشار، بعد هزيمة الإمام الحسين في كربلاء. وسرعان ما انقسمت الشيعية بدورها إلى مذاهب متفرقة مع الضرورات السياسية والاجتماعية لمجموعات مناهضة للتيار السني السائد، وللتشعبات الشيعية اللاحقة، فأوجدت دولاً وسلالات حاكمة جديدة، كالدولة الحمدانية في حلب والطالبية في الحجاز والاسماعيلية والفاطمية في شمال إفريقيا. حركات نهلت من حلول اللاهوت في الناسوت، وانتسبت لأئمة من آل البيت، وحين طال غيابهم كان لا بأس بولاية الفقيه مع الدولة الخمينية في إيران الحديثة. تلوين الإسلام وإعادة انتاجه بما يناسب المجتمعات المحلية في بقاع الفتح الإسلامي السابق، كانت هضماً لثقافات الشعوب، ومحاولة سياسية للخروج على الحاكم البعيد ومؤسسات الخلافة السنية، الأموية والعباسية، بتبرير ديني وتأويل باطني للنص القرآني.

لكن الإسلام بدأ غريباً وسينتهي كذلك، كما يقول حديث نبوي، يحلو للمفسرين السنة تحويله إلى نبوءة يعاد انتاجها مع كل إنكسار. فالسنّة وفي رد على تلون الإسلام وتشعبه، وجدوا في العودة إلى حرفية النص، وحذف كل الشوائب التي اعترته، الفرصة الأهم لاستعادة السلطة التي بُعثرت مع انتقال الخلافة إلى غير العرب السنة، منذ سيطرة البويهيين الفرس على الخليفة العباسي المحاصر في بغداد، وانتقال الخلافة لاحقاً إلى الأستانة مع العثمانيين. مقاربة محمد عبدالوهاب، في القرن الثامن عشر، لمسألتي الكفر والإيمان بين المسلمين، وتطبيق نصوص وأحكام قرآنية نزلت بخصوص المشركين وأهل الذمة، على مسلمي ديار الخلافة العثمانية لا تخرج عن هذه المحاولة. واستجرار الجيش العثماني في البداية ثم الاستعانة بجيش محمد علي باشا لكسر الدعوة عسكرياً، لم ينتج عنه سوى تسريع إنتشارها.

إنكسار دعوات وحركات إسلامية، تحمل بعداً مفاهيمياً "جديداً"، وتقوم على حوامل اجتماعية من المهمشين، وتنهل من المظلومية، وتطالب بحق "إلهي"، لا يمكن أن يتم بحملات عسكرية. وفشل الحل العسكري يصبح قابلاً للتنبؤ، خاصة إذا كان من يقوم به، هو عدو سبق تكفيره عقائدياً، واتضحت طموحاته سياسياً وعسكرياً، بل وثقافياً. فمن "يحرر" الموصل اليوم هم غرباء عنها؛ "الحشد الشعبي" الشيعي يحاصرها من الغرب في تلعفر، والبشمركة الكردية والجيش العراقي يدخلانها من الشرق باشراف قوات أجنبية في "التحالف الدولي". الأمر ذاته ينطبق على الرقة السورية، إذ منع "التحالف الدولي" مشاركة المعارضة السورية وداعمها التركي من دخول المعركة، وفضل عليهم قوات حزب "الاتحاد الديموقراطي" الكردي شقيق "العمال الكردستاني". حتى "لواء ثوار الرقة"، المكون العربي شبه الوحيد في "قوات سوريا الديموقراطية"، تم استبعاده عن المعركة.

معارك "التحرير" الحالية، هي معارك وراثة وتقسيم ورسم لمناطق نفوذ جديدة. لكن مشكلتها الكبرى تبقى في عدم رغبة رعاتها في فهم عوامل الصراع المحلية، ونزوعهم إلى تركيب حكم "خارجي" على مجتمعات محلية عانت طويلاً من التهميش، ما سبق ودفعها إلى أحضان "الدولة الإسلامية". فـ"القاعدة في بلاد الرافدين" ومن بعدها "مجلس شورى المجاهدين" و"الدولة الإسلامية في العراق"، كانت قد بدأت خسارة العراق، بعدما تحالف الأميركيون مع الصحوات السنية في العام 2006، وخففوا من نفوذ بغداد ومن خلفها طهران، قبل أن تنقلب الرياح الأميركية لتناسب الأشرعة الإيرانية في العام 2008. وسرعان ما ظهرت "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، كنسخة معدلة، أشد قوة وعنف، منذ العام 2014.

واليوم، تتحول "عادية" السنة عبر إستسهال قتل المدنيين منهم في "الحرب ضد الإرهاب" إلى سياق تبريري عسكري قابل للنقاش، يسقط على أثره المئات يومياً، في القصف على الرقة والموصل وغيرها، فتزداد معه مروية "داعش" قوة. ومع إحكام حصارها، وتقدم القوى مختلفة الجنسيات والولاءات باتجاه معاقلها، بدأت "دولة الخلافة الإسلامية"، بالخروج من المدن، والعودة إلى البادية، ميدانها الأصيل. وإذ تنهار قياداتها وهرميتها، فإن "داعش" تتحول إلى أسطورة تسكن في عقول جيل حكمته، وأشرفت على تدريبه وتعليمه. وبعد استكمال "تحرير" الحواضر الكبرى، ستبقى البوادي ملعباً لـ"الدولة الإسلامية"، قد تعيد منها الكرة، مراراً، قبل أن يحالفها الحظ مجدداً، بصورة جديدة، مستفيدة من مظلومية لا تزال تكبر وتتمدد..
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها