الأحد 2017/02/26

آخر تحديث: 07:19 (بيروت)

"جنيف 4".. المحكوم بالفشل

الأحد 2017/02/26
"جنيف 4".. المحكوم بالفشل
طرق تحقيق هذه الخيارات متماثلة، عبر التصعيد العسكري، الحصار والتجويع، دائماً (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
تعقد وفود من النظام والمعارضة السورية، مباحثات غير مباشرة (وربما تشهد جلسة مباشرة)، برعاية دولية وإقليمية، في جنيف، للمرة الرابعة خلال السنوات الماضية. المفاوضات السابقة، فشلت جميعها، ولا يتوقع أن تُحدث المفاوضات الحالية خرقاً في المسار السياسي للقضية السورية. فالمشكلة تتعدى عقد المفاوضات إلى إمكانية حدوث تسوية بين الطرفين، الأمر الذي لا يبدو احتمالاً قائماً.

الأزمة الأولى، التي تعيق إمكانية التوصل إلى تسوية تقلل من سلطوية النظام وتحقق جزءاً من مطالب الثورة، ظاهرة وبديهية، إذ تتعلق بتخارج اللاعبين السوريين. فاعتماد الفاعلين العسكريين المحليين على قوى إقليمية ودولية، جعل من أجندات تلك القوى، أكثر حضوراً على الأرض السورية. في بعض الأحيان باتت الأطراف المحلية منفذة بالكامل لاشتراطات الخارج. وإذا كانت الدول الداعمة للمعارضة، قد خففت مؤخراً من شروطها في ضوء انتصارات المعسكر الإيراني-الروسي، بل ودُفِعَت بعض الفصائل للمشاركة في مؤتمرات جانبية على هامش "جنيف 4" مثل "أستانة 1" و"أستانة 2"، فإن تصريحات روسيا وإيران تزداد تعنتاً مع اعتبار أن التفاوض على منصب رئيس الجمهورية وصلاحياته وشخصه، هي أمور غير قابلة للتباحث. وإذا كان التنازل والبحث عن تسويات بينية، من شروط نجاح المفاوضات، فإن التصعيد برفع سقف الشروط ووضع خطوط حمر يغدو مقتلة للفكرة برمتها.

من جانب آخر، لا يبدو النظام كتلة واحدة، ولا المعارضة كذلك. فتوزع الولاءات وتعدد الداعمين، فتت الفاعلين المحليين. النظام يبدو منقسماً بين مشايعي إيران وموالي روسيا، في العموم، وقواه العسكرية بدورها ثنائية المشارب والأجندات؛ من المليشيات الإيرانية وما لف لفها من "الدفاع الوطني"، إلى القوات الخاصة الروسية و"الفيلق الخامس".

العميد قيس فروة، من مرتبات "الحرس الجمهوري"، وفي تصعيد عسكري جديد، وضع المعارضة في حيي القابون وبرزة الدمشقيين، الجمعة، بالتزامن مع عقد أول جلسات "جنيف 4"، أمام أكثر من سيناريو ليختاروا ما يرونه مناسباً: وادي بردى، أو داريا، أو أي منطقة خضعت للتهجير أو "المصالحة". الغريب في عرض فروة، هو صدوره في هذا التوقيت، عن جهة من النظام موالية لروسيا، الراعي الرسمي لـ"وقف إطلاق النار" بكل صيغه المنهارة، وكذلك أحد رعاة "جنيف 4". ومروحة الخيارات التي قدّمها فروة، هي بالضرورة، إما نموذج روسي يشترط عودة مؤسسات "الدولة" وتهجير رافضي "التسوية" وانتساب المتبقين إلى قوات النظام، أو نموذج إيراني يتمثل في التهجير الكلّي والإبادة. النموذجان سبق وإتحدا في معارك حلب الشرقية، وتهجير سكانها نهاية العام 2016. طرق تحقيق هذه الخيارات متماثلة، عبر التصعيد العسكري، الحصار والتجويع، دائماً.

المعارضة المسلحة بدورها، تبدو مشتتة للغاية، مئات الفصائل تبحث عن مظلات أوسع، وتمويل وتسليح أفضل. ويمكن تصنيف المعارضة المسلحة ضمن ثلاثة اتجاهات عامة؛ الجيش الحر، والإسلاميون المعتدلون، والإسلاميون المتطرفون. ومع تراجع الدعم الخارجي للجيش الحر، باستثناء "درع الفرات" في ريف حلب الشمالي الشرقي، تتمركز القوى الراهنة بين تياري الإسلاميين، والذين تمثلهم بشكل عام؛ "أحرار الشام" و"هيئة تحرير الشام". الجيش الحر ضاع بين هذين التصنيفين، في إدلب وريف حماة الشمالي وريف حلب الغربي. المجازر الأخيرة التي ارتكبها "لواء الأقصى"، داعشي الهوى، ضد "جيش النصر" أودت بحياة العشرات، قبل أن تؤمن "هيئة تحرير الشام" طريق خروج لـ"لواء الأقصى" إلى الرقة.

التمثيل السياسي لأشتات النظام والمعارضة، يبدو إشكالياً، مع تدخل الخارج لفرض معارضات سياسية أخرى لا ثقل عسكرياً ولا شعبياً لها على الأرض. أزمة الثقة بين الحلفاء؛ إيران وروسيا والنظام، وجدت صداها في انفراط جميع محاولات "وقف إطلاق النار"، ما يفترض أنه مقدمة لأي حل سياسي. إلا أن تفاوت أولويات الأهداف بين الأطراف الثلاثة، لا يجد طريقه إلى وفد النظام المفاوض في "جنيف 4" الذي يبدو متماسكاً بأجندة واحدة. ومع ذلك، لا يمكن إغفال النزاعات ضمن المعسكر الواحد.

أي عملية انتقال سياسي، من نظام استبدادي، إلى آخر أكثر ديموقراطية، يفترض أن يقودها معتدلو النظام، بالتعاون مع بعض أطراف المعارضة، ضمن اتفاق الطرفين على تحييد القوات المسلحة. حمائم النظام يخوفون المعارضة بالصقور، والمعارضة تقنع القوات المسلحة بالتنصل من أفعال القوات الخاصة والأجهزة الأمنية مقابل تحييدها وابقائها في السلطة. تلك تفاصيل أساسية يمكن وصفها باتفاقات صغرى، ضمنية أو علنية، لفتح الباب أمام التغيير، والحؤول دون انقلاب يقوده الصقور يُعيد عقارب الساعة إلى الوراء. النظام في سوريا قام بعملية تطهير واسعة للمعتدلين من صفوفه منذ بداية الثورة. وعدا الإنشقاقات، فإن تصفية "خلية الأزمة"، قد تكون لحظة مفصلية في التصفيات الداخلية لأجنحة النظام، والتي أبقت الساحة من بعدها، للصقور المدعومين إيرانياً.

الشرط الأول للانتقال السياسي، وهو تعميق الشرخ بين معتدلي ومتشددي النظام، حسَمه المتشددون منذ البداية. منذ تلك اللحظة، بدا الحل السياسي أشبه بوهم، في ظل تمسك الصقور بمعادلة كل شيء أو لا شيء. ومن جهة أخرى، لم يعد ممكناً، بعد دخول القوات المسلحة في عمليات إخماد الإنتفاضات المحلية السورية، وتورطها في العنف المسلح، البحث عن دور لحيادها.

المعارضة السياسية تعكس حال التشتت والوهن، لمعسكر الثورة. فـ"الهيئة العليا للمفاوضات" المنبثقة عن مؤتمر الرياض نهاية العام 2015، باتت مجبرة على إدخال المزيد من العناصر إلى وفدها المفاوض. وعملية الضمّ هذه، تتم من يمينها؛ "منصة موسكو" و"منصة القاهرة"، ومن يسارها؛ الفصائل المسلحة. ووفد المعارضة الذي يسعى "المبعوث الدولي إلى سوريا"، إلى تشكيله، يفترض أن يضم مجموع المعارضات، بعد الإشكاليات التي رافقت ضمّ ممثلي "منصة القاهرة" و"منصة موسكو" إلى "وفد جنيف 4"، الذي اقترحته "الهيئة العليا للمفاوضات".

وهنا يمكن التمييز بين نوعين من المعارضة؛ معارضة كلية، تريد تغيير النظام واستثناء الأسد وفريقه مع نهاية المرحلة الإنتقالية وتمثلها "الهيئة العليا للمفاوضات"، ومعارضة جزئية تريد التوصل إلى تسوية تبقي النظام ورأسه، مع تغيير بعض سماته، وتمثلها "منصة القاهرة" و"هيئة التنسيق". ومن مروحة المعارضات المتبقية، هناك مجموعة يمكن توصيفها بالانتهازية، وتشمل "منصة موسكو" و"تيار بناء الدولة"، والتي ترضى بالحصول على أي تنازل من قبل النظام.

خريطة المعارضات السابقة، تستبعد الفاعلين المعارضين الأكثر أهمية على الأرض، وهم الإسلاميون المعتدلون والمتطرفون. وإذا كان حضور "جيش الإسلام" في وفد "جنيف 4" ممثلاً عن الإسلاميين المعتدلين، فغياب "حركة أحرار الشام الإسلامية" لا يمكن وصفه إلا بالجوهري، بسبب نفوذها وحضورها على الأرض.

الإسلاميون المتطرفون، مستبعدون بطبيعة الحال، ولكن هل يمكن إقامة أي نوع من الإتفاق الدائم، من دون التواصل مع "هيئة تحرير الشام"؟ السؤال يحوز مشروعية كبيرة، خاصة إذا كانت هناك نية حقيقية للوصول إلى تسوية. و"هيئة تحرير الشام" (تضم "جبهة فتح الشام" المصنفة إرهابية) تسيطر على مناطق واسعة في أرياف إدلب وحلب وحماة، وكان بعض فصائلها، طرفاً مفاوضاً محلياً في العديد من اتفاقات التبادل مع "الحرس الثوري الإيراني" و"حزب الله". فإذا كانت إمكانية التفاوض على المستوى المحلي قائمة، لماذا يتم رفض ذلك على مستويات أخرى؟ فـ"حزب الله" الشيعي، والمصنف إرهابياً بدوره، يماثل "هيئة تحرير الشام" السنية، في العقيدة والقوة، إلا أنه عنصر فاعل في الحكومة اللبنانية، وقواته تجتاح سوريا بغطاء روسي-إيراني. أداة "التكفير" بـ"الإرهاب"، قد لا تكون فاعلة، في ظرف معقد كالحرب في سوريا. فاستثناء أطراف فاعلة، مهما كان "تقييمنا" لها، يحمل بذور الفشل لأي اتفاق.

ورغم أن لعبة "الضم" و"الإقصاء"، ستأخذ وقتاً، قبل أن تتحدد أحجام الأطراف وقوتها، ضمن عملية الانتقال السياسي، إلا أن توافقاً أولياً يجب أن يتم بين الأطراف كافة، على ضرورة "اللعب ضمن القواعد" المتفق عليها، ضمناً أو علناً. وجود أطراف قادرة على قلب الطاولة، في أي لحظة، هو مقتل رئيسي للتفاوض، ولذا يجب توسيع دائرة الضم، وخفض عدد المستبعدين الأقوياء إلى حدوده الدنيا.

فشل "جنيف 4" ليس قدراً للأسباب السابقة فقط، ولكن أيضاً لعنصر جوهري غائب: انبعاث المجتمع المدني، القادر وحده على توسيع الحيّز الديموقراطي المتفق عليه في مخرجات المفاوضات. فإذا كانت الثورة السورية، قد تمكنت من بثّ الحياة في السياسية اليومية، وأعادت الفضاء العام ليكون هاجساً للجميع، فإن نتائج الحرب تبدو مخيبة للآمال. ففي مناطق النظام، تسيطر المليشيات، وعاد الشأن العام محتكراً من قبل "الدولة"، يُمنع التعاطي به إلا من قبل أفراد لا يجوز اجتماعهم ولا تنظيمهم. هنا سُحبت السياسة مجدداً من المجتمع. الأمر ما زال مختلفاً في مناطق المعارضة، فالمجتمع المدني فاعل وبقوة، رغم الهزات التي يتعرض لها، وعسف الإسلاميين المتطرفين. الجمعة، تم إيقاف بثّ برنامج على "راديو فريش" في الشمال السوري بعد تهديد "هيئة تحرير الشام" القائمين عليه. حادثة ليست الأولى ولا الأخيرة، إلا أن الإندفاعة الأولى للثورة، ما زال في الإمكان مشاهدتها في ريف حلب الشمالي والغوطة الشرقية وحوران.

الطريق من الشمولية إلى الديموقراطية، ليس مستقيماً، ولا غير قابل للعكس. الغموض الذي يحيط بالعملية الانتقالية، وتعدد مخرجاتها، هي أمور طبيعية. ومجموع الاتفاقات والتسويات البينية بين الأطراف، إن تمت من دون تدخل خارجي وحرب بالوكالة، هي ما يمكن أن تتحول إلى تفاهم واسع، يمكن جمعه في "الدستور". حالياً، بالنسبة للقضية السورية، هذا الإنتقال لا يبدو ممكناً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها