الإثنين 2017/11/20

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

لماذا نجحت "الزنكي" في مواجهة "تحرير الشام"؟

الإثنين 2017/11/20
لماذا نجحت "الزنكي" في مواجهة "تحرير الشام"؟
الفصيل الوحيد الذي يمكن أن يشكل حجر عثرة أمام "تحرير الشام" (انترنت)
increase حجم الخط decrease
رغم عدم تفاؤل كثيرين بالاتفاق الموقع بين "حركة نور الدين زنكي" و"هيئة تحرير الشام"، عقب المواجهات التي اندلعت بينهما مؤخراً، إلا أن صمود "الحركة" على مدار أسبوع من الاشتباكات شبه الشاملة، يعطي مؤشراً مهماً يستدعي التوقف عنده. للمرة الأولى يستطيع فصيل في الشمال مقاومة هجمات "هيئة تحرير الشام"، التي سبق لها وفككت نحو عشرين من قوى المعارضة العسكرية، بما فيها فصائل كبرى، بل إن "الزنكي" استطاعت أن تفرض على "الهيئة" هدنة لم تكن الأخيرة لتقبلها مع أي من الفصائل الأخرى التي قوضتها، رغم كل النداءات التي كانت توجه لها وتتمنى عليها القبول بالحوار والتحكيم.

النتائج الأولية للمواجهة الحالية لا تعتبر مفاجأة بأي حال، فعلى الدوام اعتقد الكثيرون أن "حركة نور الدين زنكي" هي الفصيل العسكري الوحيد الذي يمكن أن يشكل حجر عثرة أمام "هيئة تحرير الشام". وهو اعتقاد استند إلى عوامل يرتبط بعضها بطبيعة الحركة وبنيتها الداخلية، وبعضها يتعلق بطبيعة العلاقة بين الحركة ومحيطها من جهة، وما وفرته قيادة الفصيل من شروط موضوعية للاستمرار والنجاح من جهة أخرى.

فعلى الصعيد البنيوي، ركزت "الزنكي" معظم ثقلها الكمي والنوعي في المنطقة التي تأسست فيها، قبل ستة أعوام، إذ تعتبر من أولى الفصائل التي تشكلت في ريف حلب الغربي. فمن بلدة "قبتان الجبل" الصغيرة، أنطلقت "الحركة" بشكل رسمي في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2011، ليتبعها تأسيس عدد كبير من الألوية والكتائب في المنطقة نفسها. ولكن على عكس معظم تلك التجمعات، التي أسسها ضباط وصف ضباط منشقين من أبناء المنطقة، فإن "الزنكي" تأسست على يد تاجر معروف بميوله السلفية، قبل الثورة، هو الشيخ توفيق شهاب الدين، الذي لم يعرف عنه قبل العام 2011 أي اهتمام بالسياسة.

الانتماء المناطقي للمؤسسة، والخلفية السلفية للمؤسس، عاملان أساسيان سيلعبان على الدوام دوراً مركزياً في بقاء وتوسع الحركة لاحقاً، بينما تلاشت، واحدة بعد الأخرى، فصائل ريف حلب الغربي التي بنيت على يد كوادر عسكرية متخصصة كـ"جيش المجاهدين" و"حركة حزم"، اللتين أجهزت عليهما "جبهة النصرة/هيئة تحرير الشام" مع معظم فصائل المنطقة، بينما تكفلت الخلافات الداخلية والانقسامات في القضاء على الفصائل الأخرى.

فهمت قيادة "حركة نور الدين زنكي" مبكراً سر انهيار الآخرين، بل واستفادت غالباً من تلك الانهيارات، إلى حد اتهامها بالوقوف، سراً او علانية، خلف تصفية بعض هذه الفصائل، إذ ظل عامل التنافس والحساسيات بين أبناء المنطقة الواحدة حاضراً دوماً.

لكن ما فات هذه الفصائل، أو ما لم يكن بإمكانها القيام به، كان حاضراً بوضوح على طاولة قائد "الزنكي" ومعاونيه المخلصين، الذين ركزوا على استراتيجية التجذر في دائرة جغرافية ضيقة ومضمونة، تتوسع بحذر مدروس، بما يضمن عدم السقوط في فخ التضخم العشوائي، الذي كان عاملاً حاسماً في انهيار الآخرين.

كان أساس تبني هذه الاستراتيجية هو وعي قيادة "الزنكي" بأن ما سيحميها في النهاية، هو توفر حاضنة شعبية مؤمنة بها، ومقاتلين منتمين إليها باعتبارها ملاذاً لا مجرد فصيل يوفر التسليح والتمويل. ومن أجل ذلك ركزت قيادة "الزنكي" في مناطق نفوذها على نقطتين أساسيتين هما؛ تأمين الخدمات وتوفير الأمن للسكان في هذه المناطق، والتركيز على ضم أكبر عدد ممكن من الشباب فيها إلى صفوف "الحركة"، الأمر الذي شكل حالة انتماء أكثر تجذراً وتعقيداً من حالة الانتماء الأولي والعابر، أو حتى المتوهم، الذي كان السمة الغالبة على العلاقة داخل أغلب الفصائل المتضخمة الأخرى. أضف إلى ذلك استعداد "الحركة" الدائم للدفاع عن المنتمين لها، والقيام بهجمات انتقامية فورية ضد الفصائل التي تتعرض لكوادرها، الأمر الذي يفسر عدم تعرضها لأي انشقاقات مهمة منذ تأسيسها.

ولم يقتصر احتواء "الحركة" لأبناء المنطقة التي تنشط فيها على المقاتلين فقط، بل ضمت المئات من الكوادر الإدارية والفنية، وأوكلت إليها مهام مؤسسات الخدمة المدنية التي أنشأتها في هذه المنطقة. كما استقطبت معظم النخب من المثقفين والناشطين من أبناء ريف حلب الغربي، إذ أسست قيادة "الزنكي" مكتباً سياسياً، ومجلساً للشورى وداوئر أخرى، يفترض أنها تمارس أدواراً في توجهات "الحركة" وسياساتها، لكن كثيرين يجمعون على أنها مجرد جوائز ترضية، بينما قرار الحركة الحقيقي بيد زعيمها الدائم توفيق شهاب الدين، الرجل الذي استطاع أن يحقق ما عجز عنه كل السلفيين الحلبيين في الثورة.

ففي الوقت الذي لم تستطع فيه "حركة الفجر" السلفية الجهادية، التي ينتمي مؤسسوها إلى ريف حلب الغربي أيضاً، استقطاب عدد يزيد على العشرات منذ تأسيسها عام 2011، إلى حين اندماجها في "هيئة تحرير الشام" مطلع العام الحالي 2017، وبينما اجتذبت "حركة أحرار الشام" النخب من سلفيي المدينة وريفها، تاركة الصراع على السلفيين الجدد، خاصة من الشباب والمراهقين، لتنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة"، فإن كلاً من "حركة نور الدين زنكي" و"لواء التوحيد"، اللذين تأسسا على يد سلفيين أيضاً، لم يباليا بالخلفية الإيديولوجية للمنتمين إليهما.

لكن إن كان القائد الرمزي لـ"للواء التوحيد"، الذي قضى في قصف جوي عام 2013 قد افتقد لميزات الحنكة والدهاء، والحزم والسطوة التي يتمتع بها مؤسس "الزنكي"، فإن النتائج التي آل إليها حال الفصيلين اليوم، من انفراط عقد "لواء التوحيد" ووراثة "الجبهة الشامية" لما تبقى منه، يكشف عن مدى النجاح الذي أمكن لـ"الزنكي" تحقيقه، رغم أن الاثنين تحركا وفق المبادئ المرنة التي تتمتع بها المدرسسة السلفية الدعوية، التي ينتمي إليها كل من عبدالقادر الصالح وتوفيق شهاب الدين. هذه المبادئ التي كانت العامل الأول والرئيس في انفتاح الجماعتين على الجمهور من كافة الفئات والخلفيات، وهو ما يتعارض مع الميل السلفي التقليدي، القائم على الاصطفاء المدرسي والنقاء الطوباوي.

سلفية شفافة إذاً، لكنها كانت كافية، مع مغامرات مكلفة، كان آخرها وأصعبها التحالف مع "جبهة النصرة"، لتلبية حاجة المقاتلين إلى حضور العامل الديني في الجهة التي يرفعون رايتها، بقدر يكفي لمواجهة خطاب التكفير والمزاودة الدينية الذي أنهك كل فصائل الثورة. وبالطبع، فمن المحبذ أن يكون هذا الحضور سلفياً، باعتباره الخطاب السائد اليوم، مع ضرورة ألا يكون مبالغاً فيه فيؤدي إلى التنفير.

معادلة جعلت من سلفية "الزنكي" مشكوكاً بها دائماً من جانب القوى والشخصيات السلفية في العالم العربي، وخاصة منطقة الخليج، إلا أنها كانت كافية رغم ذلك للحصول على دعم العديد منها. ويكفي الإشارة إلى أن أول جهة رفعت "الزنكي" لواءها، كانت "جبهة الأصالة والتنمية" السلفية المدعومة من جمعيات سعودية وكويتية، من دون أن يعيق ذلك حصول "الحركة" على دعم قوى الثورة والمعارضة الوطنية "باعتبارها جزءاً من الجيش الحر". الأمر الذي أهلها أيضاً للحصول على حصة أساسية من التمويل والتسليح الذي قدمته الدول الداعمة للمعارضة، عبر غرفة العمليات المشتركة في تركيا "الموم".

وتوقف دعم "الموم" بشكل نهائي مطلع العام 2017، مع إعلان قيادة "الحركة" انضمامها إلى "هيئة تحرير الشام"، الأمر الذي شكل صدمة كبيرة وإن لم يكن مفاجئاً تماماً، خاصة وأن هذا الإعلان جاء عقب ابداء "الحركة" دعمها للهجوم الذي كانت قد شنته "جبهة تحرير الشام" قبل ذلك بأسابيع فقط على 5 من فصائل الجيش الحر في الشمال، بحجة مشاركتها في مؤتمر أستانة. بل إن "الزنكي" كانت رأس حربة الهجوم الذي قضى على "تجمع فاستقم كما أمرت"، في حلب، في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، في الوقت الذي كانت المدينة قد دخلت حالة الحصار التي فرضتها قوات النظام وحلفاؤها عليها.

خطوة الاندماج مع "تحرير الشام"، على إشكاليتها، وما رافقها وسبقها من طعنات وجهتها الحركة للطيف الثوري، اعتبرها البعض مجرد تكتيك آخر تلجأ إليه قيادة "الزنكي"، التي لم يتصور هؤلاء أن يرتكب زعيمها خطأ ساذجاً من هذا المستوى. وبغض النظر عن صحة هذه الفرضية، فإن الأيام أثبتت أن "الحركة" التي انفصلت عن "هيئة تحرير الشام" بعد خمسة شهور من تشكيلها، قد استفادت بشكل واضح من هذه التجربة الخاصة.

ومن دون هذه التجربة، لما أمكن لقيادة "الزنكي" إقامة علاقات متقدمة جداً مع طيف واسع من التيار الجهادي الناشط في سوريا، خاصة الطيف الذي غادر غالبيته أيضاً "هيئة تحرير الشام" مؤخراً، احتجاجاً على سياسات "الهيئة" الأخيرة، بقيادة أبي محمد الجولاني وفريقه.

وبهذا الصدد، تبدو أكثر من لافتة المواقف الجماعية التي عبرت عنها شخصيات وتجمعات من الجهاديين غير السوريين "المهاجرين"، في بيانات ولقاءات مع قيادة "الزنكي" مؤخراً، عن عدم تأييد "هيئة تحرير الشام" في هجومها على "الحركة". تطور مهم يشير إلى نجاح جديد لـ"حركة نور الدين الزنكي"، في ميدان الإعلام والخطاب الشعبي، الذي كان دائماً ما تبدأ منه هزائم الفصائل المحلية في مواجهة الجماعات الجهادية التي تمتلك خبرة طويلة في هذا المجال. وحده ربما "جيش الإسلام"، كان قد سبق "الزنكي" إلى الاستثمار في هذا الميدان ونجح في ذلك.

وكما أفادت "الزنكي" ثورياً وشعبياً بعد موقفها من هجوم "هيئة تحرير الشام" على "حركة أحرار الشام" الصيف الماضي، فإن صمودها بمواجهة "تحرير الشام" أخيراً، قد مكنها من إعادة تقديم أوراق اعتمادها كفصيل ثوري، وجعل أكثر المهاجمين لها حتى الأمس القريب، يعلنون تأييدها مجدداً، إذ اعتبر كثيرون أنها في مواجهتها هذه، إنما تخوض معركة وجود الثورة.

ورغم أن هناك من الوسط الثوري من يحذر من رفع سقف التأييد لـ"الزنكي" إلى هذا المستوى، وتناسي جناياتها على الثورة خلال الشهور الـ12 الأخيرة. ورغم أن هناك في التيار الجهادي من يؤيد خطاب "هيئة تحرير الشام" ويشكك بمواقف "الحركة" ويحذر من تقلباتها وتغير اصطفافاتها بين كل فترة وأخرى، مذكرين بخمسة اندماجات سبق لـ"الزنكي" ان دخلتها وغادرتها سابقاً. إلا أن الواضح بقوة، هو أن "الحركة" في طريقها لتسجيل جولة نجاح جديدة على طريق صعب وملغم، يتفق الجميع، خصوماً ومؤيدين، على أنه من دون هذه الوصفة الخاصة التي امتلكتها وطورتها "الزنكي"، ما كان لها أن تستمر إلى اليوم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها