الإثنين 2017/01/23

آخر تحديث: 08:52 (بيروت)

في التناقض الروسي-الإيراني

الإثنين 2017/01/23
في التناقض الروسي-الإيراني
فهم مشترك للعالم كميدان لتنافس الكيانات السياسية "الحضارية الأصيلة"، على مناطق النفوذ (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
قبل أيام، منعت كوسوفو دخول أول قطار قادم من العاصمة الصربية بلغراد إلى بلدة ميتروفيكا الشمالية، ذات الغالبية الصربية، مزدانٍ بصور قديسين صرب أرثوذوكس، وشعارات قومية سلافيّة منها "كوسوفو صربيّة" مكتوب بـ21 لغة.

أزمة تسببت في موجة غضب وتهديدات صربية، طالت "الإتحاد الأوروبي" لدعمه حكومة كوسوفو، ذات الأغلبية الألبانية المسلمة. الرئيس الصربي توميسلاف نيكوليك، قال إن البلدين أصبحا "على حافة الحرب"، وإن صربيا لن تتوانَى عن "الدفاع عن أرضها"، في إشارة إلى أن ميتروفيكا تتبع لصربيا لا لكوسوفو التي حازت استقلالها في العام 2008. الرئيس الكوسوفي هاشم ثاسي، اتهم الصرب بإثارة وتحريض الغالبية الألبانية في كوسوفو، وتقليد "نموذج القرم" للسيطرة على شمال كوسوفو، ليردّ نيكوليك، المدعوم روسيّاً، بالقول أن لا مجال لأي تفاهم قبل عدول كوسوفو عن قرارها، والسماح بدخول القطار.

وإذا كانت أزمة القطار قد استخدمت من قبل الرئيس الحالي نيكوليك، كدعاية في الانتخابات الرئاسية الصربية المقبلة في وجه منافسه فوجسلاف سيسليج، القومي المتطرف، فإن الطرفين يحظيان بدعم روسي كبير، لرئاسة بلد مازال انضمامه إلى "الإتحاد الأوروبي" مسألة قيد البحث من قبل الأوروبيين، وقضية سياسية يمكن استثمارها بالنسبة للساسة الصرب الذين باتوا يقتربون من إدارة ظهرهم لأوروبا مع الصعود الروسي.

روسيا تنظر إلى صربيا، كالشقيقة الصغرى التي خسرت جزءاً كبيراً من أراضيها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وتفكك يوغسلافيا، وحرب البلقان الأخيرة بين العامين 1992-1996. حينها كانت موسكو في ذروة ضعفها، وعجزت عن حماية صرب البوسنة عندما قررت الولايات المتحدة تأديبهم بعد فظائعهم التي امتدت لسنوات. واضطر الصرب حينها للتخلي عن مساحات واسعة، كانوا يعتبرونها صربيّة، لصالح كرواتيا والجبل الأسود والبوسنة، لكن أكثر ما أزعجهم هو استقلال كوسوفو بعاصمتها بريشتينا، على حدودهم الجنوبية، وهو موضوع يحاولون اليوم إعادة فتحه مجدداً.

في حرب دويلات يوغسلافيا السابقة، تدخلت إيران لصالح مسلمي البوسنة السنّة، فأرسلت مئات المقاتلين من "الحرس الثوري الإيراني" وزودت المقاتلين المسلمين الألبان بثلثي الأسلحة والذخيرة التي استخدموها في الصراع مع الصرب. كما أن "حزب الله" وعلى لسان زعيمه حسن نصرالله، كان قد اعترف بإرسال مقاتليه إلى البوسنة. ومع ذلك، وفيما اعتبر قلّة وفاء لـ"الجمهورية الإسلامية"، فقد صوّتت سراييفو في العام 2010 على تجديد العقوبات الغربية على طهران، بسبب ملفها النووي.

تاريخ من قلة الثقة بين روسيا وإيران، فالعلاقة بين موسكو وطهران، لم تكن يوماً ودية كما هو الحال الآن؛ فالروس يتذكرون قتل سفيرهم في إيران من قبل "غوغاء فرس" في القرن التاسع عشر، لأن السفير القتيل كان شاعراً يكتب قصائد للأطفال، تحفل بها المناهج الروسية التعليمية حتى يومنا هذا. الصراع التاريخي بين بريطانيا العظمى والامبراطورية الروسية، والمعروف بـ"اللعبة الكبرى"، والذي استمر حتى عشية الحرب العالمية الأولى، كان قد اتخذ من آسيا الوسطى "ملعباً" له. وهناك تبادلت روسيا وبريطانيا السيطرة على إيران مراراً، وأنشأتا فيها حكاماً وسلالات موالية للطرفين، حكمت أجزاءً من إيران بالوكالة. الروس "السوفيات" فعلياً لم يخرجوا نهائياً من إيران حتى منتصف القرن الماضي، وسبق أن دعموا إقامة دولة "مهاباد" الكردية التي عاشت لأقل من عامين شمال غربي إيران. في ظلّ الشاه، تحولت إيران إلى قاعدة غربية لإحتواء التمدد الشيوعي في روسيا السوفياتية. وبعدما قامت الثورة الخمينية رفعت شعار "لا شرق ولا غرب"، لكنها نظرت إلى "الإلحاد" السوفياتي كخطر لا يقل عن "الديموقراطية" الغربية.

قد يكون التكهن صعباً، لمعرفة ما إذا كانت طهران ستدعم مسلمي كوسوفو في وجه الصرب حلفاء موسكو، إذا ما تجددت حرب البلقان، فالبراغماتية الإيرانية بلغت مستويات متقدمة في التعامل مع الأزمات الدولية. وهذه نقطة تشابه كبرى تجمع طهران وموسكو؛ إذ سبق أن دعمت إيران الأرمن في مواجهة الشيعة الأذربيجانيين، وسبق أن حاربت روسيا الأرثوذوكس في جورجيا وأوكرانيا، وسبق أن تحالف الإيرانيون مع "الجهاد الإسلامي" و"حماس" والمقاتلين الألبان السنّة، كما دعمت موسكو مليشيات شيشانية في حرب أبخازيا.

المنطلق المتماثل في السياستين الخارجيتين الروسية والإيرانية، يقوم على فهمهما المشترك للعالم كميدان لتنافس الكيانات السياسية "الحضارية الأصيلة"، على مناطق النفوذ. فروسيا تدعم مليشيات متمردة انفصالية في محيطها السوفياتي السابق، وأحزاباً قومية يمينية متطرفة حول العالم. في المقابل، هناك جهاز إيراني كامل؛ "الحرس الثوري" يعنى بسياسة خارجية ما تحت دولية، بمعنى رعاية مليشيات خارجية كوكلاء محليين لإيران، كـ"حزب الله" في لبنان و"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" في العراق وجناحه المسلح "فيلق بدر". وهو نموذج تمّ تطويره في ممازجة مفهوم "تصدير الثورة الإسلامية" مع العزلة الدولية التي أعقبت "الثورة الإسلامية" في البلاد في العام 1979.

روسيا تنظر إلى الشرق الأوسط، وكأنه فارغ لا يوجد فيه سوى "كيانين حضاريين"؛ إيران وتركيا. لغة جيوسياسية لا يُسمع غيرها في موسكو، فتتحول المنطقة ضمنها، إلى مجرد خطوط وخرائط، تمر فيها مناطق النفوذ والسيطرة. وحدهم الإيرانيون من يفهم هذه اللغة، ويتعاملون بها، لرسم قوس شيعي من طهران إلى بيروت. الميزة المشتركة في هذه اللغة، هي انتمائها إلى أدبيات السياسة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وهي ذاتها، التي يحرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على استعادتها، كنقيض للمنظومة العالمية الحالية، واستعادة نسخة قديمة، كانت فيها "الكيانات الأصيلة" تتنافس، من دون أحلاف كبرى، على مناطق النفوذ.

روسيا وإيران، تخوضان حرباً مشتركة في سوريا، بدأت علائم نجاحها تظهر للعيان. فمن إخراج المعارضة من أحياء حلب الشرقية، إلى تفريغ ريف دمشق من المعارضة، يرتسم نوع من التطهير الإثني، القائم على تهجير العرب السنّة المتمردين ضد نظام الأسد. لروسيا وإيران تاريخ حافل في ممارسات التطهير الإثني، وإعادة التوزيع الديموغرافي للسكان، داخلياً وخارجياً. ففي حين تدعم موسكو انفصاليين سلافيين مؤيدين لها، في محيطها السوفياتي السابق، عملت إيران بهمة على تقويض النسيج السكاني العراقي وتمكين الشيعة الموالين لها من الهيمنة على البلد بعد الغزو الأميركي. واليوم يتشارك الطرفان العملية ذاتها في سوريا، ويبدو الخلاف بينهما، موجوداً فقط في مخيلة المعارضة السورية؛ إذ قد يكون هناك أساس من قلة الثقة بين الطرفين، إلا أن ما يجمعهما في هذه اللحظة أكبر مما يفرقهما.

فمع انطلاق إدارة الرئيس دونالد ترامب، تبدو إيران في أمس الحاجة إلى روسيا، لتأمين حائط صد دفاعي يحتوي الهجمة الأميركية. إيران، بدت متوترة إلى الحدّ الذي دفعها إلى إرسال إشارات ودّية إلى السعودية. الخوف من إدارة الرئيس ترامب، ومن احتمال استغلالها ثغرات في تطبيق "الاتفاق النووي" لنقضه، يُجبر الإيرانيين على الحفاظ على علاقة جيدة مع الروس، اللذين رفض ترامب اعتبارهم خطراً على أميركا، رغم كل الحديث والفضائح عن تدخلهم في الانتخابات الأميركية، وعن سعيهم لتحجيم ترامب بواسطة فيديوهات وتسجيلات جنسية تدينه.

في الوقت ذاته، تبدو إيران بالنسبة لروسيا، ككوريا الشمالية بالنسبة للصين؛ ورقة يمكن استخدامها للضغط على الأميركيين، وعلى دول الجوار. القوات الشيعية المنتشرة من بغداد إلى بيروت، المُدارة من قبل "الحرس الثوري"، هي وسيلة روسية أيضاً، لعقد صفقات رابحة، وانجاز تفاهمات جيوسياسية.

لا بد أن العلاقة بين طهران وموسكو، أعقد مما يمكن تصوره، وعدا عن عقود بمليارات الدولارات في مجالات الطاقة والبنى التحتية، وتكنولوجيا السلاح، فروسيا جعلت من قصف إسرائيل لمنشآت إيران النووية أمراً غير مجدٍ عملياً إن لم يكن صعباً للغاية، إلا أنها ولمرات، غضت نظرها، وربما شجّعت، قصف اسرائيل لمواقع "الحرس الثوري" و"حزب الله" في سوريا. وحيناً تظهر روسيا، وكأنها لا تملك النفوذ الكافي لوقف هجوم مليشيات النظام و"حزب الله" على المعارضة في وادي بردى، رغم اتفاق "وقف إطلاق النار" الموقع مع تركيا. وحيناً، تتعلل روسيا برفض إيران مشاركة الولايات المتحدة في محادثات أستانة. ومرة لا تعرف موسكو من قصف القوات التركية قرب مدينة الباب.

الأمر قد يتجاوز العلاقات بين الدول، إلى العلاقات بين منظومات وأجهزة "الدولة" بحد ذاتها، ودورها الوظيفي. فكلا البلدين، كل على حدة، طور نوعاً من هيمنة "رأسمالية الدولة" وإدخلاها طوراً كولونيالياً، يرى في محيطهما الخارجي فرصاً للتقدم والاحتلال. شهية على الابتلاع قد تفوق قدرتي البلدين على الهضم، لكن هذا لن يعيق طورهما التوسعي، في الأمد المنظور على الأقل، ولن يجعلهما في موقع اختلاف.

وإذا كانت روسيا ككل، تتحرك كما يتنفس فلاديمير بوتين، فالأمر ليس ذاته في إيران؛ فالتناقض بين الإصلاحيين والمحافظين، ورغم هيمنة التيار المتشدد على معظم مفاصل الحكم، يمكن استثماره روسيا. نظرياً، يصب ذلك في سياق المقاربة التي دافعت عنها إدارة الرئيس باراك أوباما، أثناء مفاوضات "الإتفاق النووي"، والقائلة بتقوية الجناح الإصلاحي. إلا أن المقاربة الروسية معنية بهيمنة المتشددين، واستمرار طموحاتهم الكولونيالية، إلا عندما يحين موعد تقاسم الحصص ومناطق النفوذ. حينها قد تلعب روسيا دور المعادل والموازن بينهما، مرة أخرى.

وإذا كان قطار بلغراد لم يصل محطته النهائية في ميتروفيكا الشمالية، فإن القطار الروسي-الإيراني، لم يخرج بعد عن سكته.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها