الأربعاء 2016/08/17

آخر تحديث: 18:26 (بيروت)

"همدان" معادلاً لـ"أنجرليك": روسيا إذ تشتهي تركيا

الأربعاء 2016/08/17
"همدان" معادلاً لـ"أنجرليك": روسيا إذ تشتهي تركيا
في تلك اللحظة، بدت تركيا تماماً بلا حلفاء (انترنت)
increase حجم الخط decrease
منذ ما قبل الانقلاب الفاشل، منتصف تموز/يوليو، وتركيا تعيش فعلياً بلا حلفاء دوليين حقيقيين. ورغم عضويتها في حلف "شمال الأطلسي"، ومحادثاتها اللامنتهية مع بروكسل للحصول على عضوية "الإتحاد الأوروبي"، إلا أنها أجبرت على البقاء في حيّز على تخوم التحالفات الكبرى.

عدم موافقة تركيا على طريقة الغرب في إدارة المسألة السورية، بل وانخراطها كلاعب رئيس فيها، جعلها في موقع التعارض مع دورها الجيوسياسي المُراد منها غربياً. موقع حذر، استغلته روسيا، مراراً، لتحجيم تركيا، عبر الملف الكردي.

الأمر ذاته، كان قد حدث عشية الحرب العالمية الأولى. حينها استثمرت روسيا في الموضوع الأرمني ضمن تركيا، ودفعته إلى حدوده القصوى. وعلى الرغم من اتفاقية برلين في العام 1878، التي وقعها السلطان عبدالحميد، مرغماً، لوقف الزحف الروسي إلى اسطنبول غرباً، وشرقاً إلى شمال الأناضول، إلا أن الطموح الروسي لم يتوقف. حينها تنازلت السلطنة العثمانية لروسيا عن ثلاث مقاطعات جنوبي القوقاز؛ باتوم وأردخان وكارس، التي تضم نسبة أرمنية عالية من السكان.

روسيا القيصرية، التي اعتبرت نفسها وريثة الإمبراطورية البيزنطية وحامية الكنيسة الأرثودكسية، كانت تحلم باسطنبول "كونستانتينوبل"، عاصمة بيزنطة سابقاً. وبعيداً عن المبررات الدينية، فاسطنبول العثمانية، بموقعها بين قارتين، والمتحكمة بالملاحة بين البحرين؛ الأسود والمتوسط، كانت عقبة حقيقية في وجه التمدد الروسي. محاولات الروس لانتزاع أكبر مساحة من العثمانيين، استمرت طيلة الفترة بين اتفاقية برلين حتى عشية الحرب الأولى. ففي العام 1914 طلبت حكومة القيصر نيقولاي الثاني، بالحماية الدولية، للأرمن في ست مقاطعات عثمانية، شرقي الأناضول، ومنها ديار بكر.

سان بطرسبورغ، استمرت في استخدام الأرمن كذريعة للتدخل في الشؤون التركية، ما كان قد رفع مستوى التوتر بين الأرمن وجيرانهم الأكراد، وسط "تجاهل" عثماني، وتسبب في موجة المجازر الأولى في العام 1908، بحق الأرمن. الأمر ذاته، وعلى نطاق أوسع، وبمشاركة جماعة "الاتحاد والترقي"، الحكام الجدد في اسطنبول، عاد للتكرار، بين العامين 1914 و1915، في ترانسفير ومجازر بحق الأرمن، بغرض انتزاع الورقة الأرمنية من يد روسيا، ووقف أطماعها في الأرض العثمانية.

واليوم، يبلغ النفاق الروسي ذرى غير معهودة من قبل، فوصاية موسكو على "القانون الدولي" تكاد لا تتضمن سوى موضوعة "السيادة"، النقيض الموضوعي لـ"حق التدخل" لأسباب إنسانية. وموسكو باتت تخوض الحروب، دفاعاً عن "سيادتها"، أو لحماية "سيادة" حكومات "شرعية". لكنها وعبر استخدام مزيج هجين، من تكتيك الحروب التقليدية وما يسمى "الجيل الرابع"، تحاول تفكيك نسيج الدول التي تتدخل فيها، كما في سوريا وأوكرانيا وتركيا.

فالدعم الروسي الكبير، لحزب "الإتحاد الديموقراطي" الكردي، شقيق حزب "العمال الكردستاني"، طيلة السنوات الماضية، كان يتجاوز خلق أزمة لتركيا على حدودها الجنوبية مع سوريا، إلى الداخل التركي. استخدام الروس للأكراد ضد تركيا، لم يكن يوماً مختلفاً عن استخدامهم للأرمن، قبل أكثر من قرن. روسيا، رافقت دعمها للأكراد، بتدمير مناطق التركمان السوريين، وتهجيرهم من ريف اللاذقية الشمالي، وريف حلب الغربي. هذا عدا عن قصفها الوحشي لمناطق العرب السنة، في حلب وإدلب، واتباعها سياسة الأرض المحروقة، والتهجير الجماعي، لمئات آلاف السكان.

استفزاز موسكو المتواصل لأنقرة، كان يمكن تجنبه، لو كان لتركيا حلفاء دوليون يُمكن الاعتماد عليهم. لكن اسقاط تركيا للمقاتلة الروسية، التي اخترقت أجواءها، في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، أظهر بوضوح كامل، عدم جدّية "الناتو" في الدفاع عن تركيا. كما أن محاولة الإنقلاب الفاشل، حظيت بشكل أو بآخر، بموافقة غربية، للإطاحة بحكومة "العدالة والتنمية".

في تلك اللحظة، بدت تركيا تماماً بلا حلفاء.

ليس للشهية الروسية من ذروة. فروسيا، ولعدم وجود حدود طبيعية لكيانها الجغرافي، تجد نفسها مدفوعة باتجاه سلوك عدواني دفاعي. هو حال الطبيعية الروسية، منذ تشكلها على يد إيفان الرهيب في القرن السادس عشر. وبحسب ستيفن كوتكين، في الـ"فورين بوليسي"، فإن روسيا منذ عهد إيفان ولمئات السنين من بعده، وسّعت مساحتها بمقدار 50 ميلاً مربعاً، يومياً. ذلك التوسع المستمر، هو سرّ الجيوسياسة الروسية؛ حماية التوسع السابق بتوسع لاحق.

الأمر ذاته، استمر في الحقبة السوفييتية، وإن كانت نهايتها مؤلمة لموسكو، عبر خسارة عدد كبير من الجمهوريات التي استقلت عنها. منحنى الإنحدار وصل إلى نهايته، مع صعود فلاديمير بوتين إلى السلطة، بعد انجازاته الدموية في الشيشان، والحؤول دون انفصالها، ومن ثم الحرب في جورجيا. وحين استعصت أوكرانيا وشقت طريقها لمغادرة الفُلك الروسي، اجتاح الجيش الروسي شبه جزيرة القرم، كمنفذ روسي أخير على البحر الأسود. كما قسمت روسيا شرقي أوكرانيا، إلى دولتين يقودهما انفصاليون أوكران موالون للكرملين.

لطالما مثّلت روسيا تحدياً وجودياً للدول المجاورة لها، حتى وإن فاقت شهيتها قدرتها على الهضم. ولكن الذي دفع الرئيس التركي أردوغان، لزيارة "صديقه" فلاديمير، كان المرارة من الموقف الأميركي تجاه الإنقلاب. الأمر قد يكون مماثلاً، لما حدث أيضاً، مطلع الحرب العالمية الأولى، حين فاوض وزير الحرب العثماني الجديد، و"بطل" استعادة أدرنة، اسماعيل انفر "انفر باشا"، المبعوث العسكري الروسي إلى اسطنبول، بغرض عقد تحالف عسكري بين الطرفين. تحالف يقوم على تعهد سان بطرسبورغ بوحدة الأراضي العثمانية، ووقف الدعم الروسي للقوميين الأرمن، واستعادة الجزر التركية الثلاث التي احتلتها اليونان، ومقاطعة ثراس التي احتلتها بلغاريا، في حرب البلقان الأولى. مقابل ذلك، كانت تركيا ستقدّم دعماً عسكرياً كاملاً، لدول "الحلفاء" في الحرب.

وزير خارجية القيصر سيرغي سازانوف، رفض ذلك العرض، فما بدأ الحديث عنه، من تقسيم للسلطنة العثمانية، بين فرنسا وبريطانيا وروسيا، "الحلفاء"، كان أكثر إغراءً للروس، خاصة وأن اسطنبول قد تكون الجائزة الكبرى لهم، بعد نهاية الحرب.

حينها لم يعد لتركيا، من مهرب، فتحالفت مع ألمانيا، ودول "المحور"، لحمايتها من أطماع "الحلفاء" في السلطنة العثمانية. أطماع ستجد تعبيرها الأمثل في اتفاقية "سايكس-بيكو-سازانوف". ولم يحل دون ذلك الطموح الروسي، سوى اندلاع الثورة البلشفية في روسيا في العام 1917.

واليوم، ومرة أخرى، يبدو أن الروس لم يُعجبوا بما عرضته عليهم تركيا، وأن لديهم بعد ما يشتهونه. وبعد أيام قليلة من زيارة الرئيس التركي لروسيا، طلب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بمراقبة دولية للحدود السورية-التركية. الأمر وإن لم تعلق عليه أنقرة، إلا أنه يُعتبر تدخلاً روسياً في السيادة التركية، مُجدداً.

الأمور ازدادت تعقيداً، بعد زيارة مستعجلة لوزير الخارجية الإيرانية إلى أنقرة، ومحاولة تقديمه عرضاً إقتصادياً لتركيا. زيارة ظريف التركية، كانت على الأغلب، محاولة لإخفاء عرض إيراني أكثر إغراءً لروسيا. فإيران قدمت، للمرة الأولى منذ "ثورتها الإسلامية" قاعدة "همدان" الجوية لطيران أجنبي. وبهذا المعنى أصبحت "همدان" معادلاً روسياً في إيران، للوجود الأميركي في قاعدة "أنجرليك" التركية.

قصف روسيا للمعارضة السورية في حلب، انطلاقاً من "همدان"، هو تصعيد جديد لحرب الإبادة الروسية-الإيرانية، ضد السوريين، إلا أنه يأتي أيضاً لقطع الطريق أمام "لاعب مؤثر" يدعم "الإرهابيين" في سوريا، بحسب الصحافة الروسية. "اللاعب المؤثر"، هو بالتأكيد، تركيا، التي مازالت تقف على التخوم، بين الأعداء-الحلفاء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها