بعد معارك طاحنة، تمكنت قوات المعارضة السورية من فك الحصار الذي فرضته قوات النظام وحلفاؤها على الأحياء الشرقية من مدينة حلب بعد سيطرتها على طريق "الكاستيلو" في تموز/ يوليو 2016. فقد تمكنت قوى المعارضة من السيطرة على بعض أهم معاقل النظام العسكرية في حلب مثل كلية المدفعية وكلية التسليح والكلية الفنية الجوية، وقلبت بذلك المعطيات وحاصرت النظام داخل المدينة. ويتوقع أن تكون لهذه الإنجازات العسكرية، إذا تمكنت المعارضة من الحفاظ عليها، تداعيات كبيرة على الصراع على حلب وعموم المسألة السورية.
انقلاب في الميدان
حاول النظام وحلفاؤه استباق احتمالات التوصّل إلى اتفاق تنسيق عسكري روسي - أميركي، بمحاولة استنساخ "تجربة حمص"، وفرض "تسوية" على حلب وفق إستراتيجية "الجوع أو الركوع"، التي اتبعها النظام في مناطق مختلفة من البلاد وأفضت إلى خروج "آمن" للمقاتلين بأسلحتهم الخفيفة، وإخراج المدينة من معادلات الصراع. ومع بداية حزيران/ يونيو 2016 بدأت قوات النظام بمحاولة ترجمة أهدافه المتعلقة بعزل قوات المعارضة في حلب في جيوب صغيرة وقطع خطوط إمداداتها وبخاصة تلك التي تربطها مع تركيا. وقد بدأت حملة النظام والميليشيات الحليفة بمساندة الطيران الروسي على مناطق الليرمون، وبني زيد، والملاح، و"الكاستيلو"، ومخيم حندرات، وكفر حمرة (انظر الجدول 1). واستند النظام في هجومه إلى ثلاث قوى رئيسة: قوات النمر التي يقودها العقيد سهيل الحسن، ولواء القدس التابع لأحمد جبريل، ولواءان من الفرقة الرابعة، فضلاً عن ميليشيات أخرى مساندة. ونتج من ذلك قطع طريق الإمداد الوحيد لقوى المعارضة السورية في مدينة حلب. وفي صباح 28 تموز/ يوليو 2016 بات أكثر من 300 ألف مدني تحت الحصار، ومن ثمّ بدأ النظام والقيادة الروسية بالترويج لفكرة فتح معابر إنسانية.
كان لتمكن النظام من فرض الحصار على حلب تداعيات كارثية على المعارضة سياسياً وعسكرياً وإنسانياً، ما دفعها إلى تنسيق جهدها وتوحيد هدفها المتمثل بفك الحصار.
وفي 3 آب/ أغسطس 2016 شنت قوات المعارضة هجوماً كبيراً استهدف قوات النظام المتمركزة في المشاريع السكنية المعروفة باسم 1070 ومدرسة الحكمة، وفي تلال مؤتة، وأحد، والمحروقات، والعامرية. ومع انتهاء اليوم الأول من المعارك أعلنت المعارضة عن خطتها المكونة من عدة مراحل لفك الحصار.
وفي 6 آب/ أغسطس 2016 بدأت المعارضة هجومها على المدرسة الفنية والتي كانت تعتبر آخر نقاط تمركز النظام قبل أوتوستراد الراموسة، وفي الوقت نفسه قامت فصائل المعارضة المحاصرة داخل المدينة بهجوم من الجهة المقابلة، تمكنت خلالها من السيطرة على دوار الراموسة من الجهة الداخلية والمدرسة الفنية الجوية من الجهة الخارجية، وبذلك تم فتح الطريق وفك الحصار عن أحياء حلب الشرقية.
عوامل نجاح فك الحصار
على الرغم من وجود مؤشرات قوية على عودة الدعم النوعي الذي تقدمه الدول الداعمة للمعارضة من أجل استرجاع التوزان العسكري في حلب، وكسر الحصار، وعدم السماح للنظام وحلفائه الاستفادة من الوضع الميداني لتعزيز شروطه في الجولات التفاوضية المقبلة، فإنه يمكن إرجاع الانتصار الذي حققته قوات المعارضة السورية في معركة حلب إلى تضافر عدة عوامل:
أولاً: الأداء الجيد لقوى المعارضة ويشمل ذلك:
ثانياً: الأداء السيء للنظام وحلفائه ويشمل ذلك:
ثالثاً: تحولات جبهة النصرة
قدمت جبهة النصرة نفسها خلال المعركة باعتبارها فصيلاً سورياً بعد أن أعلنت فك ارتباطها عن القاعدة وتغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام، وكان لهذا التحول آثار مهمة في معركة فك حصار حلب؛ إذ أتاح ظروفاً أفضل لنشوء تنسيق كامل معها، بعد أن قلّت تخوفات الفصائل من العمل معها والالتقاء حول هدف إنهاء الحصار.
التداعيات السياسية والعسكرية المتوقعة
تشير معارك حلب الأخيرة التي جرت بالتزامن مع محادثات روسية - أميركية في مدينة جنيف للتوصل إلى اتفاق تنسيق عسكري بينهما في سورية، إلى استمرار التناقض وانعدام الثقة بين واشنطن وموسكو، كما أوحت بذلك التصريحات الأخيرة التي أطلقها الرئيس الأميركي باراك أوباما. ووفقاً لذلك، وارتباطاً بمجريات الميدان في حلب، فإنّ جملة من التداعيات المتوقعة ستلقي بظلالها على المعادلات الميدانية والسياسية.
ميدانياً، يتوقع أن تقوم فصائل المعارضة بتعزيز خط فك الحصار في منطقة الراموسة وتوسيع امتداداته باتجاه حلب المدينة (وهذا ما أعلنه جيش الفتح بتاريخ 7/8/2016) ، مع تعزيز جبهتي ريف حلب الجنوبي ومحاصرة الميليشيات الإيرانية التي لا تزال تحاول الوصول إلى بلدتي كفريا والفوعة المواليتين في إدلب. وقد تحاول قوى المعارضة استمرار التقدم باتجاه مركز المدينة للسيطرة عليها، وإذ يبدو الهدف الثاني أكثر إغراء بسبب مردوديته الكبيرة سياسياً وعسكرياً خاصة في ظل التسليح النوعي الذي حصلت عليه قوات المعارضة جراء سيطرتها على كلية المدفعية، فإنه سيكون مكلفاً جداً وسوف يصطدم على الأرجح بضغوط دولية للحفاظ على مبدأ التوازن العسكري. وفي جميع الأحوال يمكن استخلاص عدة معطيات رئيسة ستشكل عنوان المرحلة القادمة:
أما سياسياً، ستلقي معارك حلب بظلالها على المفاوضات التي لا يزال موعد جولتها الثالثة غير محدد، وسيدخل المسار السياسي في حالة من عدم اليقين وصولاً إلى الانتخابات الأميركية القادمة، وتوضّح توجهات الإدارة الجديدة. كما تدل المعارك على بدء عودة فاعلية الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة بعد انكفائها (بحكم التدخل الروسي العسكري المباشر) خاصة بعد سعي قوات النظام وحلفائه لاقتناص الفرص وإجهاض العملية السياسية وترويج فكرة شراكته "الموضوعية" في محاربة الإرهاب كورقة ضغط وابتزاز تهدف إلى إعادة تأهيله وشرعنة استمراره.
خاتمة
لا شك في أن قوات المعارضة السورية حققت نجاحات باهرة، لم يتوقعها خصومها، بتمكّنها من قلب المعطيات في وجه روسيا وإيران ومحاصرة قوات النظام بعد أن كانت محاصرة ومدعوة للاستسلام. ويعود ذلك إلى تنسيق جهدها والتخطيط المحكم والاتفاق على وحدة الهدف. ومع ذلك، مازال من المبكر الاحتفال بالنصر، فالتحديات الماثلة مازالت كبيرة، وهناك استعدادات تجري لمعركة كبرى على حلب. ومن جهة أخرى، ربما حان الوقت لأن تبدأ قوى المعارضة في الاهتمام بالصورة التي تعطيها عن نفسها كقوة منضبطة تلتزم قواعد الحرب وأخلاقياتها، وبأنها تقدم بديلاً مقبولاً قادراً على إدارة شؤون البلاد.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها