الثلاثاء 2016/06/28

آخر تحديث: 16:51 (بيروت)

وإنهار النظام العالمي

الثلاثاء 2016/06/28
وإنهار النظام العالمي
التمرد الذي يقوده اليمين القومي، في الدول الرأسمالية، هو تعبير عن وصول قطار العولمة إلى محطته الاخيرة (Pawel Kuczynski)
increase حجم الخط decrease
لم يستيقظ العالم من نتيجة الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى تعالت الأصوات في مناطق مختلفة من أوروبا تطالب بالخروج أيضاً. الأمر وصل إلى تكساس، وطالب اليمينيون فيها بالتصويت على الخروج من الولايات المتحدة. الانقسام في العالم بدأت تتضح معالمه مع صعود طاغ لليمين القومي/الفاشي على انقاض القرية الكونية الصغيرة.

النظام العالمي الذي نام لعشرين عاماً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، على تنظيرات نهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية، استيقظ على تمرد غير مسبوق في عقر دار الرأسمالية. التمرد الذي يقوده اليمين القومي، في الدول الرأسمالية الكبرى، هو تعبير عن وصول قطار العولمة إلى محطته الاخيرة. فالاتحادات الكبرى باتت عرضة للتفكك على وقع الادعاء بالجمود الاقتصادي، وسط تحريض سياسي ثقافي ضد المهاجرين والغرباء.

تشكيل الإطار المفهومي الجديد للعالم، هي المهمة التي أخذها اليمين القومي على عاتقه، مؤخراً. ويتضمن ذلك، الإعلاء من شأن الصفاء العرقي، واعتباره سبب الازدهار الإقتصادي، والتحريض على المهاجرين من باب مسؤوليتهم في الركود. تلك هي المغالطة بعينها. لكن ذلك لا يهم، مع ارتفاع أسهم الخطاب الشعبوي التحريضي، وبهمّة بوريس جونسون ودونالد ترامب، ونسختهم البوتينية في "مكافحة الإرهاب". وكل ذلك، يصب في خانة تخليق الهويات الجوهرانية الثابتة، غير المتغيرة، والمضادة بعمقها للفعل الكوسموبوليتاني المعولم، إرث الثورة الإنجليزية وحرب الاستقلال الأميركية والثورة الصناعية.

ظاهرة دونالد ترامب كانت مزحة في بدايتها، وبعد أقل من 6 شهور على حملته الانتخابية بات صوت اليمين العميق. يمين انعزالي كاره للاخر، ممجد للذات. كراهية الآخر، الغريب، هي السمة التي يتلاقى عليها أقطاب اليمين حول العالم. لا بل أنهم يتقاربون من بعضهم، ويشدون من أزر بعض، ويحاولون تحديد الغريب بينهم. هرطقة عرقية قومية، تتوافق آنياً على كراهية المسلمين والآسيويين والأفارقة والأميركيين اللاتينيين. في قمة هرم بغضائهم يتربع العرب والمسلمون، يهود هذا العصر، الذي يشبه في جنونه تلك الأيام التي سبقت وصول النازيين بزعامة هتلر إلى السلطة في ألمانيا. المضحك، أن اليمين الفاشي اليوم يستفحل في دول كانت قبل أكثر من نصف قرن في طليعة الحلفاء الذين حاربوا محور النازية والفاشية. من روسيا بوتين إلى أميركا ترامب، وما بينهما، يبدو العالم متجها إلى الهاوية.

في العقدين التاليين لانهيار المنظومة الاشتراكية، تعالت الأصوات لإعادة تقييم التجربة، وخاض اليسار مسيرة بائسة طويلة للتحرر من إرث الستالينية وديكتاتورية البروليتاريا ورأسمالية الدولة. اليسار لم يخرج معافى من ذلك المخاض، وظل السؤال قائماً: أين اخطأنا، ولماذا فشلنا؟ مع إقراره الضمني بنجاعة الرأسمالية، وتمثيلها لنمط الإنتاج الأنجح. وفي حين يغيب اليسار اليوم عن نقد إعادة التموضع الرأسمالي نحو اليمين القومي، يظهر الليبراليون كندٍ ضعيف للقوميين.

نهاية التاريخ، على ما يبدو لم تنتهِ بعد، والفصل القادم فيها، لن يكون سؤالاً عن سبب فشل الأمم التي لا يقوم اقتصادها ومؤسساتها السياسية على التعدد وحماية الملكية الخاصة، بل هل وصلت الرأسمالية إلى نهايتها؟

صعود اليمين الفاشي، بعد طور من الركود الاقتصادي العالمي، دليل مهم على مشكلة الرأسمالية البنيوية. فالعالم الذي نعيشه، بات شديد الانقسام بين الأمم الأكثر غنى والأكثر فقراً. انقسام حاد ترى ظواهره في البلدان الطرفية، التي تتمزق تحت وطأة الحروب الاهلية والتنافس الإقليمي والدولي لالتهامها. وبدل أن يُعزز الغرب القيم الليبرالية والاقتصادات الحرة والديموقراطيات في دول الأطراف، باتت الأصوات الانعزالية في الغرب، وهي الصاعدة على متن الديموقراطية، ترفض التعدد وتنادي بالصفاء العرقي والقومي.

اغتيال البرلمانية البريطانية جو كوكس، على يد نازي جديد، كانت إعلاناً عن بداية القطيعة بين العالمين. الصور المقلقة جاءت من مسيرة لحزب "العمال التقليدي" النازي الجديد في أميركا، حين تناوب أعضاؤه على إهانة وطرد امرأة ملونة، وتطور الأمر إلى اشتباك بالسلاح الأبيض مع مجموعة فوضوية. تهديدات إنجليز غاضبين، سكارى بالنصر في الاستفتاء، لعرب وملونين، باخراجهم من بريطانيا قريباً، أصبحت شيئاً مألوفاً.

نكوص الرأسمالية عن طورها المعولم، يأتي من بوابة يمين فاشي يروج لخطاب تحريضي شعبوي، يتلبس لبوس الأزمة الإقتصادية، على الرغم من أن الركود الإقتصادي ليس بالواقعة الكارثية كما يجري استغلالها. الخطاب التحريضي ضد المهاجرين، يحاول أن يفتعل لغة السوق، لتبرير العنصرية. ولكن فعلاً هل توقف نمو السوق؟ وهل الارتداد عن الوحدات السياسية الكبرى سيُبقي عجلة الرأسمالية دائرة؟ وهل ما يحدث اليوم هو حاجة حقيقية، أم مجرد تلاعب بالمخاوف والوهم؟

العنصرية تجاه المهاجرين، والمجتمعات المختلفة ضمن الغرب، تبدو في هذا السياق استمراراً للنسق الاستعماري، ولكن على الأرض الغربية. النفور من الآخر، وتجريمه بناء على العرق، هو نكوص في المنظومة القيمية الليبرالية التي رافقت صعود الرأسمالية كنموذج أفضل لتطور البشرية. التخلص من المنظومة القيمية الليبرالية، ربما لن يكون بالإجراء السهل، ولا بالتدخل الجراحي الممكن، لفصل مكاسب الرأسمالية عن نتائجها المعولمة.

ولكن ماذا عن العرب والاسلام، وهل صحيح أن "الدولة الإسلامية" ساهمت في نزوع الغرب إلى اليمين؟ يبدو السؤال منطقياً، في ظل جرائم فروع "داعش" حول العالم. ولكن المسألة الأخطر، هي استخدام "داعش" لتبرير نهاية حد التسامح، في مجتمعات تزداد ضيقاً تجاه ذاتها. تبرير للتراجع عن قوانين تحفظ الكرامة البشرية وتصونها، لصالح مزيد من المراقبة والمعاقبة.

"داعش" ومَن خلفها، تمكنوا فعلاً من "دعشنة" العالم. ولكن من المستفيد الفعلي؟

المحور الممانع، لم يتوقف عن التهديد، منذ خمس سنين، بإحراق المنطقة، ونقل الحروب إلى الغرب. روسيا بوتين، كانت الأكثر نشوة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في تحقق مذهل لـ"نبؤات" المُنظر ألكسندر دوغين، الذي طالما دعا لتفكيك الاتحاد الأوروبي، ومدّ نفوذ روسيا إلى أوروبا، بحثاً عن القارة المفقودة "أوراسيا". حتى إيران، اعتبرت خروج بريطانيا، فرصة نادرة لتحقيق مشروعها. فالأزمة التي بدأت بثورة شعبية ضد الاستبداد في سوريا، بات يُسمع صداها حول العالم الذي توقف حتى عند عدّ قتلى السوريين. "الدولة الإسلامية" خلقت جوّ الرعب الكافي، ليركبه اليمين في العالم، ويتجه به إلى عالم نكوصي.

وكأن هذه القرية الكونية، باتت شديدة الازدحام، وبات سكانها، في ظل الركود الاقتصادي والتغيير المناخي، في حال من الكراهية للذات والآخر. ازدحام صار يُطالب بالحرب، لا على الشاشات، بل في الشوارع.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها