الأحد 2016/02/28

آخر تحديث: 06:58 (بيروت)

دونالد ترامب.. سوبرمان المتطرفين يشطر أميركا نصفين

الأحد 2016/02/28
دونالد ترامب.. سوبرمان المتطرفين يشطر أميركا نصفين
لكل مشكلة حل جميل، تحت تسريحة شعر ترامب التي تحير الإعلام الأميركي (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease

الحل بسيط: نغمس ٤٩ رصاصة في دم خنزير. نوقف الإرهابيين الخمسين في صف، ونطلق الرصاصات عليهم. ينجو واحد منهم، نفلته ليعود إلى ناسه ويخبرهم بما حدث.

هذا واحد من حلول المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب، لمسألة الإرهاب، الذي لا يعرف الخط الفاصل بينه وبين المسلمين. تلك الحكاية لا يعلم أحد من أين استقاها، ليشرح كيف يمكن لأميركا أن تكون حازمة وشرسة في سحق الإرهاب واسترجاع مجدها المفقود.


أما تنظيم "الدولة الإسلامية"، فليس على أميركا إلا أن تبني جيشاً عظيماً يركل مؤخرة هذا التنظيم!


أيضا، تطرد أميركا، بإشارة من سبابة ترامب، أكثر من ١١ مليون مهاجر غير شرعي إلى المكسيك، وتبني جداراً عظيماً، تدفع المكسيك تكلفته، يفصل بين البلدين ويمنع تجار المخدرات واللصوص، ومغتصبي النساء، من الولوج مجدداً إلى أرض الأحلام.


المسلمون؟ حلهم بسيط. نمنعهم من دخول أميركا. الموجودون في البلد أصلاً، معضلة لا شك أن لديها مخرج في ذهنه. اللاجئون السوريون، الذين لدهشة الطامح بترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية، كلهم من الشبان الأقوياء، ولا أطفال أو نساء بينهم، هم حصان طروادة لـ"داعش". وحل الأزمة السورية بسيط وجميل: سيجعل من سوريا محمية آمنة وجميلة، يعود إليها أبناؤها ويعيشون بسلام، في ظروف مناخية تلائمهم. وكل شيء سيكون جميلاً.


ماذا أيضاً؟ لكل مشكلة حل جميل، تحت تسريحة شعر ترامب التي تحير الإعلام الأميركي، والتي استقرت بعد تبدلات عديدة في ألوانها وأحوالها على الأصفر الذي يلمع تحت الضوء كأنه صفيحة من الذهب.


كل حلول الملياردير جميلة. نجم تلفزيون الواقع فخور بأنه ليس سياسيا، بل مفاوض ناجح ووسيم وذكي وقوي، وزير نساء، ومتنمر. أفكاره تخرج من فمه من دون المرور في ذهنه: اركل هذا. اطرد ذاك. افرض رأيك على الصين واليابان وروسيا والمكسيك. اهزأ من الجميع. هكذا تعود أميركا عظيمة، كما في أيام المغفور له رونالد ريغان.


إنها الحلول النموذجية لعجوز ثرثار يجلس أمام بيته في القرية، هاذياً في العلوم كافة، من نظرية نشأة الكون، إلى وصف أدوية لكل أنواع المرض.


متصاب في التاسعة والستين؛ يقوم في دماغه عالم مسطّح، محشو برسومات مبسطة لبلد بصورة شركة سعيدة، ملآنة بالشقر المزهوين، والفنادق والمنتجعات والكازينوهات، والجامعات والقهوة والشوكولا، والمثلجات والفودكا و"الستايك"، والثياب والساعات، التي ينتصب عليها اسمه ماركة مسجلة فخورة: ترامب.


المشكلة الوحيدة في السيناريو أعلاه، هو أن دونالد ترامب ليس عجوز القرية الثرثار. إنه يتجه ليكون مرشح الحزب الجمهوري بقوة الانتخابات التمهيدية للحزب، وهو فائز فيها حتى الآن بثلاث ولايات، من أصل أربع، وبفارق واسع عن أقرب منافسيه. ومَن بدأت حملته كمزحة سمجة، وتهريج يمكن نيويوركية أن تضحك لدى سؤالها عن احتمال وصوله للرئاسة، يبدو أنه مستمر في حصد الولايات واحدة تلو الأخرى. وإن كانت قوى منافسيه الرئيسيين تيد كروز وماركو روبيو تخور أمام نجم البلاهة الصاعد هذا، فإن مرشحاً مثل جيب بوش، الابن الأمين لمؤسسة الحزب الجمهوري وسليل العائلة الرئاسية، انهار تماماً وانسحب مبكراً ليوقف اندفاع حملته الانتخابية بحماسة غريبة لأن تكون المهزلة الأشد إهانة لمرشح جدي في انتخابات الولايات المتحدة.


كيف تورطت أميركا بترامب، بعد سبع سنوات من الصورة المشتهاة لرئيس عصري يمثل الوجه الآخر، المتعدد والديموقراطي والمتسامح والمثقف والحداثوي،إلى الأميركي الذي لم يعد مختصراً براعي بقر جامح، يأخذ قراراته المصيرية في الداخل والخارج وفقاً لرؤى عضلات ساعديه؟


ترامب ليس مشكلة الحزب الجمهوري، لكنه نتاج مشاكل هذا الحزب المحافظ الذي يتخبط في أزمة هوية تمنعه من تشكيل خطاب جذاب لقاعدة ازدادت تطرفاً خلال سنوات أوباما، وشعرت بالأرض تميد تحت أقدامها التقليدية التي تخاف من كل جديد، ولم يعد يطمئنها شخص متل تيد كروز، هو في أحسن حالاته نسخة مهذبة ومملة عن ترامب، كما لن تجد ضالتها في روبيو، اللاتيني الذي يضطر لأن يكون أكثر بياضاً من أشد البيض تطرفاً، ليبرر مشروعية عرقه بينهم.


في المقابل، فإن ما يقال عن ترامب بإنه يجيد بيع الرمل للعرب مثل يقع في محله. فهو يحمل أسوأ ما في صفات تاجر معدوم الأخلاق. وبذكاء هذا التاجر الفطري، عرف ترامب أي سلعة/رسالة، ستلقى نجاحاً منقطع النظير عند جمهور حزب يفترض أنه متدين يحافظ على قيم العائلة، يرفض الاجهاض، ويفضل الحفاظ على سلاحه، ويمكنه أن يعيش مرتاح البال بأقل هامش من تعدد ألوان البشر. هذه الأمور ليست سلعة ترامب. هو يعلب منتوجاً آخر وينجح في تسويقه.


ترامب يبيع الخوف. ولأن من عادة الآخر أن يكون الجحيم، فكل المساوئ تأتي من الآخرين. اللاتينيون يبتلعون الوظائف، وقبولهم بأجور زهيدة في العمل تمنع الأميركيين من منافستهم. وهم يتكاثرون ولسانهم الاسباني آخذ في الانفلاش حتى يكاد يطغى على اللغة الإنكليزية - الأم (مع أن لا لغة رسمية لأميركا في دستورها).


سيأتي يوم يستيقظ فيه الشاب الأبيض العادي ليجد أنه صار أقلية في "بلده"، وهو أصلا عاطل عن العمل لأن مكسيكياً ما انتزع منه فرصته المحقة. هذا المكسيكي تاجر المخدرات، ليس وفياً لقيم أميركا البيضاء؛ وفوق ذلك، ثمة من يفكر بمكافآته على قلة وفائه بمنحه الجنسية، ناهيك عن أن طفله المكسيكي سيولد أميركياً لمجرد أن أمه، غير الشرعية، أنجبته فوق تراب الولايات المتحدة. وإذا أكملنا في هذا الخط التصاعدي للكابوس، فقد يصل هذا الطفل المكسيكي يوماً إلى البيت الأبيض. هنا يأتي دور دونالد ترامب "السوبرماني": نبني جداراً جميلاً بطول ثلاثة آلاف كيلومتر بين البلدين، فتنتهي أزمة تهريب المهاجرين، ونرحل كل المقيمين غير الشرعيين.


عملياً، الحلان مستحيلان، وخطة ترامب لتطبيقهما واضحة: هراء كامل، من ذاك الذي يرميه من دون ترابط ولا منطق، الرجل الثمل الجالس بقربك في البار. لكنك ستقتنع به إذا كنت أميركياً طيباً، لم ينل القدر الكافي من التعليم، ولم ينه كتاباً في حياته، وكل ما تعرفه عن بلدك وعن العالم يأتيك من شاشة التلفزيون، أو من التفاهات الموضبة على الانترنت.


يتعرض الإعلام الأميركي لقصف مركّز من ترامب. إنه موجود طوال الوقت، يحكي كثيراً لكي لا يقول شيئاً. ما يعنيه هو رمي عبارات صادمة ومتطرفة وشتائم تجد طريقها بسرعة هائلة إلى إعادة التدوير على الشاشات وفي الإنترنت. برنامجه الانتخابي قائم على معطىً يتيم: ترامب يعرف ماذا يقول لأنه ترامب، صاحب المليارات، نموذج الحلم الأميركي في أقصى تجلياته. وإذا حدثك هذا الرجل العظيم بلغتك، ومازحك وربت على كتفك، وأسمعك بوضوح الأفكار التي تعتمل في ذهنك وتخجل من تردادها لأنها صارت بمثابة عيب أخلاقي، فإنه سيمتلك قلبك ويصير رامبو المفتقد.


بالأسلوب نفسه، يحل ترامب قضايا كبرى: أنا أحب إسرائيل. لدي الكثير من الأصدقاء اليهود، وصهري يهودي. وإذا تعرضت إسرائيل لاعتداء، سأدافع عنها من دون أدنى تردد. ولنكن صريحين. الطرف الآخر يربي أطفاله من عمر السنتين على الحقد وكره إسرائيل. لن يكون انهاء الأزمة سهلاً. لكنني أجيد التفاوض، ولدي مفاوضون جيدون وسيكون كل شيء جميلا. إذا سُئل كيف سيفعل ذلك؟ سيردد الكلام نفسه، مرة بعد مرة.


لكنه، بخفته واستهتاره اللذين لا قعر لهما، يجيد التعبير عن "نفاد الصبر" مما يفترض بأنه أخلاقي وصحيح سياسياً. فلنسم الأشياء بأسمائها.. يقول لجمهوره. كلهم يريدون النيل منا وكلهم يستغلون طيبتنا والتزامنا. لنقل للجميع كفى. للمسلمين والمكسيكيين والصينيين والروس واليابانيين، ولكل من يأتي من خلف المحيطين. يبشر مريديه بأن زمن الحداثة قد انتهى وأن عصر رعاة البقر عائد. كل ما نحتاج إليه هو جيش جبار يركل المؤخرات حول العالم بقدم فولاذية، ورئيس أشقر في البيت الأبيض لن يجد في هذا العصر صديقا يفهمه ويقدره، بل ويجد فيه مثلا أعلى، غير الرفيق كيم جونغ أون، زعيم جمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية. صداقة قد تتطور بينهما إلى الانخراط في لعبة فيديو بأزرار حمراء ورؤوس نووية حقيقية يبتهجان بها وتبتهج معهما الكرة الأرضية.


صورة ترامب تحتمل الكثير من الهزل لكن خطره بات داهماً وحقيقياً. حرك الملياردير المتطرف مياه المتطرفين البيض الآسنة، وسيتابع على هذا المنوال جاذباً المزيد منهم، الذين باتوا الآن يعبّرون عن أنفسهم بأريحية أكبر. وهو فخور بمن نال قسطاً قليلاً من التعليم بينهم. وفي مهرجاناته الانتخابية، يبدو جمهوره غاضباً وعلى أهبة الاستعداد لحرب أهلية. هذا الجمهور الذي يجد له قاعدة فكرية تطالب بالفخر بالعرق الأوروبي، وتنادي بالعدل للأكثرية البيضاء التي تخسر كل شيء، حتى الرئاسة، للآخرين، والأفارقة الأميركيين في مقدمهم. أميركا المتطرفة التي يحكي ترامب باسمها لم تولد فجأة، لكنها وجدت فيه  فرصتها الفجة والصريحة للتعبير عن نفسها. أدخل المهرج عصاه في وكر دبابير. الضحية الأولى لهذا الوكر هو الحزب الجمهوري الذي سيحتاج إلى الكثير من العمل بعد مرور عاصفة ترامب واكتشاف ما خلفته من أضرار عميقة فيه، يمكن لها أن تنهيه ممزقاً في فروع أفضلها سيكون التقليدي المحافظ. والحزب إذ انتبه إلى الخطر الآتي من خارجه، بدأ ينظم معركته ضد ترامب، والمناظرة الأخيرة على شبكة "سي ان ان" الأميركية كانت دليلاً حسياً على تركيز معركة المنافسين، روبيو وكروز ضده، بشراسة غير مسبوقة جعلته يرتد إلى الدفاع للمرة الأولى بعدما كان المبادر دوماً إلى الهجوم.


لا يبدو هذا كافياً أمام امتداد ترامب. لكن أميركا ليست مجموعة بيضٍ متطرفين فحسب. ثمة أميركا أخرى ملونة، والبيض أكثرية فيها، تخضع نفسها لسلم من القيم الأخلاقية الحداثوية، تعمل على تطويرها في كل مرفق من مرافقها المدينية، من المدرسة إلى الحي إلى الجامعة والنقابة ومعترك الشأن العام، أميركا هذه تقف مذهولة أمام ظاهرة تعيدها إلى عصور تخجل منها، وتمارس فعل ندامة أبديا لتخطيها. وصعود خطاب ترامب المتطرف، أدى في المقابل إلى صعود الخطاب النقيض، في كل حرف، للمرشح الاشتراكي الديموقراطي بيرني ساندرز.


هذان الآتيان من خارج الحزبين هما الطرفان اللذان تقف عندهما أميركا، قبالة أميركا أخرى. بين هذين الطرفين تقع المعركة التقليدية بين أبناء الحزب الجمهوري، وابنة الحزب الديموقراطي المفضلة هيلاري كلينتون.  


اِسما المرشحين إلى الانتخابات الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، ستشكل وجه الصراع حول أي أميركا يريد الأميركيون، وهم سيقفون أمام سؤال القلق الهائل من هذا الشرخ الذاهب في عمق مجتمعهم، والذي سمح يوماً لكابوس دونالد ترامب بأن يقترب من سماء واشنطن.


أما إذا انتهى الكابوس بجلوس المهرج في المكتب البيضاوي، فإن أميركا جديدة ستبدأ، وستكون أقرب إلى برنامج تلفزيون واقع في بث مباشر ومتصل، يختلط فيه الجد بالهزل، والصراعات الأهلية بمباريات الملاكمة، والسياسة بالماورائيات، والحروب بالسينما، والدموع بالتهريج الذي لا حدود له. وبقدر ما سيكون هذا الـ"شو" مسلياً، سيكون مدمراً، ولن تعود أميركا بعد نهايته إلى ما كانت عليه، هذا إن انتهى. "شو" لا يمكن اثنان الاختلاف على اسمه: أهلا بكم في أميركا دونالد ترامب.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها