الأربعاء 2016/02/10

آخر تحديث: 14:51 (بيروت)

بيرني ساندرز..إبن النظام الاميركي والثائر على مؤسساته

الأربعاء 2016/02/10
بيرني ساندرز..إبن النظام الاميركي والثائر على مؤسساته
بيرني ساندرز (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease

لا أحد يعرف كيف نجا بيرني ساندرز من الأكاديميا. النيويوركي، ابن المهاجر البولندي اليهودي، هو الصورة النموذجية للاستاذ الجامعي المتمرد والمختلف عن البقية من الهيئة التعليمية. عجوز نزق وملآن بالحماسة. بشعر قطني متروك لراحته لا يمكن لتسريحته أن تتكرر نفسها مرتين. صوت عميق يهدر دوماً، لكنه يبدو على وشك الانقطاع فجأة من شدة التعب. وساعدان طويلان ما إن يفتحهما صاحبهما على اتساعهما، حتى يبدو تائهاً بين تلقين مستمعيه درساً جديداً، وبين الارتماء عليهم وحضنهم جميعاً لينقذهم في اللحظة الأخيرة من خطر موشك.

إنه الأستاذ الساحر. هذا الذي بالكاد يرد التحية، ويجهد كي يرسم ابتسامة خاطفة سرعان ما تتلاشى تحت كم عظيم من الجدية. ويصاب بالمغص حين يضطر للتحدث عن حياته الخاصة، وعلى الأرجح يرتفع ضغطه كلما اضطر للوقوف أمام شاشة هاتف غبي ليشارك بـ"سيلفي". أستاذ يختزن طاقة مهولة من الحماسة والإصرار. سيناتور ولاية فيرمونت الدائم منذ عقود، اليهودي الذي لا شيء فيه يدل على أنه آمَنَ سابقاً، أو سيؤمن لاحقاً بنشاطات ماورائية. الاشتراكي المستقل دائماً، والذي قرر أن يخوض الانتخابات مرشحاً عن الحزب الديموقراطي كـ"اشتراكي ديمواقراطي"، الجد لسبعة أحفاد، خرج كموجة كبيرة أصابت بالعدوى، أول ما أصابت، الشباب الأميركي. صار بيرني، فجأة، بطلاً شعبياً لجيل ولد في الثمانينيات والتسعينيات. هذا الجمهور الأشد قلقاً والأكثر حيوية وعصرية وحداثة وقدرة على التعبير، تلقى بيرني الشكل وبيرني المضمون، كحلم قد تحقق أخيراً.. كنبي منتظر.


لا أحد من السياسيين الأميركيين يشبه ساندرز. هم شديدو الحرص بالحفاظ على الصورة المعروفة عن السياسي المبتسم، الواثق، الفخور بأنه ابن نظام "أعظم بلد في العالم". الإبن الوفي للتقاليد الديموقراطية، المؤمن عميقاً بالحرية وبالحلم الأميركي، إلى آخر النشيد الذي لا يحيد عن مضمونه الجميع. وهم لشدة التزامهم بهذا النشيد، وبهذه الصورة، التي هي وسيلتهم الوحيدة لأن يكونوا مقبولين في الناديين السياسي والإعلامي، تحولوا إلى ما يشبه نسخات "فوتو- كوبي" عن بعضهم البعض، وإن تكن النسخة الأصلية ضائعة ولا أحد يعرف لمن كانت.


هو، في المقابل، أصلي. هذا الوصف بات لصيقاً بعجوز بروكلين الذي قد يكرر عباراته نفسها مرة بعد مرة، مثل معظم الآباء والأجداد، وأساتذة الجامعة المرموقين. أصلي وليس نسخة، ومن خارج المؤسسة، وعدو شرس وعنيد، من صغره، لكل ما هو ليس عادلاً برأيه، واللاعدالة، لرجل خاض صراعات أجيال متعددة، تبدأ من الفصل العنصري، ولا تنتهي عند أزمة التغير المناخي. ولأنه صادق، فهو ليس مستعداً للتخلي عن وصف نفسه بأنه اشتراكي، في بلد حمّل هذه الصفة كل أوزار حروبه التي خاضها إبان الحرب الباردة، كما جعلها ضداً مباشراً لكل قيمه التي تغنى بها، وأولها الحرية بالطبع.


وهو إذ يصر على اشتراكيته، ويلمح إلى أنه سيدفع بالحزب الديموقراطي صوبها، لا يتلون بحسب الحاجة الرئاسية، كما لا يعدل عن أفكاره، حتى يرسّخ ما يريد للأميركيين أن يعرفوه عنه.


وهي ليست اشتراكية ماركسية - لينينة بالطبع، وبيرني لا يعد الأميركيين بتحويل "تايمز سكوير" إلى ساحة حمراء، كما أنه لن يضيف إلى نجوم العلم مناجل ومطارق. هو لا يطلق نظريات في الاقتصاد ولا يبدو أنه خبير في مثل هذا. إنه، ببساطة، يطالب باشتراكية مشتهاة عند الأميركي العادي، الذي لم يحتك بالحرب الباردة أو ولد بعد انتصار أميركا فيها. تلك الاشتراكية المطبقة في دول تدعي أميركا أنها تتقدمها بفارق هائل. كندا مثلاً، والدول الاسكندنافية، التي من حق المواطن فيها أن يحصل على الأمور الأساسية، التأمين الطبي والتعليم الجامعي المجانيين، وحدّ أدنى للأجور لا يسمح بأن يكون هناك أطفال جوعى لآباء وأمهات يكدون في عملهم أكثر من أربعين ساعة في الأسبوع، ليعجزوا في آخره عن تأمين حياة لائقة لهم ولعائلاتهم.


هذه الاشتراكية، التي كان يفترض بخصومه أن يصوبوا بها عليه بصفتها عيباً خلقياً في أميركيته، جعلها بيرني سلاحه الذي يصوب فيه على الواحد في المئة من الجشعين الذين يحتكرون الثروة ويديرون العاصمة واشنطن، والكونغرس، بينما يفتح ساعديه على اتساعهما ليحيط بالتسعة والتسعين الباقين من الأميركيين الطيبين.


الرسالة الواضحة والبسيطة والمكررة تدير آذان الأميركيين، ويصغون لها بحب، خاصة الشباب منهم، المضطرين إلى حمل دين الأقساط الجامعية معهم إلى سوق العمل التنافسي، وفوقه الضرائب والفواتير اليومية، وفوائدها، وهي حلقة مفرغة تجعلهم عالقين في بيوت أهاليهم بعد انتهاء السن الافتراضي لصلاحية هذا البقاء.


وكما هاجم باشتراكيته، تلقى اتهامه بالراديكالية بالذكاء عينه. فبات في كل خطاب يرتجله معتمداً على مجموعة أوراق مبعثرة أمامه، يتحين الفرصة ليطرح سؤالاً يتلقفه مناصروه بالهتاف: هل تريدون فكرة راديكالية؟ إليكم هذه. ثم يطلق عبارة قد لا تكون جديدة، لكنه يجيد إحاطتها بكل عناصر الدراما التي تجعلها تجد، ليس هتافاً هستيرياً فحسب، بل طريقاً إلى أن تتحول إلى ما يشبه قولاً مأثوراً يضعه المتطوعون في حملته على صورة له ترمى على صفحته على "الفايسبوك"، لتكون وقوداً في نار هو بطلها تنتشر في "السوشال ميديا"، التي يدير غرفة عملياتها أناس شديدو الموهبة والذكاء، ويحترفون هذه اللعبة الافتراضية، التي كانت أحد أسباب وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض.


عدو الواحد بالمئة أعلن رفضه المطلق قبول التبرعات من تكتلات أصحاب رؤوس الأموال، ولا يوفر مناسبة ليهاجم المؤسسة الإعلامية. وبعد فوزه الكبير، الثلاثاء، على منافسته هيلاري كلينتون في نيوهامشر، قال بفخر إن حملته تلقت أكبر كم من التبرعات الفردية في تاريخ الانتخابات في أميركا. وترك مناصريه يصرخون بالرقم الذي بات الجميع يحفظه غيباً: ٢٧ دولاراً من كل شخص.


المنتصر بدا مساء الثلاثاء في أعلى لحظات الثقة بنفسه. فوزه لم يكن مفاجئاً، لكنه أعطى زخماً كبيراً لحملة صانع المفاجآت، الذي لا يكف عن إظهار قدرة غريبة على التكيف، ضمن ثوابته، مع متطلبات المعركة. هو ليس هاوياً سياسياً كما دونالد ترامب. إنه يبدو كما لو أنه ولد من الخاصرة اليسرى للسياسة.


لم يكن يوماً هيبياً. لكنه في نيويورك كان من الناشطين ضد الفصل العنصري. وحين انتقل لاحقاً إلى ولاية فيرمونت، انضم إلى حزب اتحاد الحرية اليساري. في العام ١٩٧١، حضر اجتماعاً للحزب وابنه )من صديقته بعد زواج أول فاشل وقبل زواج ثاني من زوجته الحالية جاين التي كانت أماً لثلاثة( جالس في حضنه. حين سُئل الموجودون عمن يريد أن يترشح لمركز سيناتور رفع بيرني يده. سيخوض في السنوات العشر التالية أربع معارك انتخابية على مركزي حاكم وسيناتور فيرمونت، ولن يظهر له أثر بطبيعة الحال لكنه أحب الحملات الانتخابية نفسها. وأحد أصدقائه يقول لمجلة "نيويوركر" إن الفارق بين بيرني واليساريين هو رغبته بالفوز، بينما هم لا يحبون الفوز لأنه يجعلهم يخسرون نقاءهم.


بعد فشله المتكرر، ترك بيرني الحزب وقرر نزول الدرج السياسي قليلاً، وخاض معركة عمدة مدينة برلنغتون، أكبر مدن فيرمونت، في العام ١٩٨١،  وفاز بها، ونجح في تحويل المدينة إلى نموذجية. أمضى العمدة الاشتراكي الوحيد في كل أميركا شهر عسله في الاتحاد السوفياتي وعمل على توأمة مدينته بأخرى سوفياتية. كما زار كوبا على أمل لقاء فيديل كاسترو، ولم يفلح. وتوأم بيرلنغتون مع مدينة في نيكارغوا التي زارها وطلب من دانيال أورتيغا، في عهد رونالد ريغان، زيارة بيرلنغتون فاعتذر أورتيغا. وبصفته عمدة مدينة مجهولة تماماً، بعث برسائل إلى الاتحاد السوفياتي والصين والبيت الأبيض وفرنسا وبريطانيا للعمل على نزع التسلح والبدء بالتفاوض. ولم يكن راضياً، لا عن مارغريت تاتشر، ولا رونالد ريغان. فسح لنفسه مكاناً في قلوب اليسار الأميركي، لكنه لم يفلح في أن يكون خبيراً في الشؤون الخارجية. وما زال كذلك لقلة اهتمامه على الأرجح.


والعمدة الذي صار سيناتوراً بعد ذلك، اجتهد في سبيل تمرير قرارات تتعلق بحقوق الأميركيين وفاوض الجمهوريين واتفق معهم على مثل هذه القرارات، ووقف لثماني ساعات ونصف يخطب في الكونغرس الأميركي ضد الاقتطاعات الضريبية التي اعطيت للشركات الكبرى، وهو خطاب سيظهر لاحقاً في كتاب بعنوان "الخطاب". لكن مجده السياسي الخارجي لا يتعدى رفضه حرب العراق. وحين يصل إلى فلسطين، يخسر تقدميته ليلتزم بخطاب المؤسسة المختزل: لإسرئيل الحق في الوجود، ومع حل الدولتين.


ساندرز الذي أمضى في شبابه فترة قصيرة في" كيبوتس" اشتراكي إسرائيلي في فلسطين، لا يكره نفسه اليهودية كما يُتهم غيره من اليهود الأميركيين المناصرين للقضية الفلسطينية. لا يؤمن بالأديان بالطبع وهو يعلن ذلك، لكنه ليس خصماً لإسرائيل.


السياسة الخارجية هي صندوق باندورا الذي لن نعرف ما الذي سيخرج منه إلا إذا وصل بيرني إلى البيت الأبيض. والانتخابات برمتها تدور خارجياً حول تنظيم "داعش"، الذي يتفق كل المرشحين على قدرتهم على سحقه، كل على طريقته. لكن المعركة في البداية، وبيرني ساندرز لا شك سيطور خطابه، لكنه لن يحيد عن الشق الداخلي منه. بدأ من الآن يوسع هذا الخطاب ليشمل الأفارقة الأميركيين واللاتينيين لأنه يدرك أن كلينتون تتفوق عليه. وهو يعمل، ومعه تعمل آلة تتسع باطراد. كما أنه يجتهد على الابتسام أكثر، وعلى المزاح وعلى التطرق إلى حياته الشخصية والتحدث عن قصة أبيه المهاجر الفقير وما عاناه (بسبب الواحد في المئة).. وقد قدم له كاتب ومنتج البرنامج الكوميدي الأيقوني في الثقافة الشعبية "ساينفيلد" لاري ديفيد، خدمة العمر. ما إن قلده في برنامج "لايت نايت شو" الساخر حتى تحولت الشخصية النزقة في الفيديو خبرا لا تكف وسائل الإعلام و"اليوتيوب" ومواقع الاتصال عن إعادة بثه. قبل ثلاثة أيام من انتخابات نيوهامشر وقف يمثل معه، وكما نجاح الفيديو الأول، كان الثاني.


مع ذلك، ما زال بيرني ساندرز يبدو مرتبكاً حين يعطى طفلاً ليحمله، وما زالت عضلات وجهه تتشنج حين يضطر للابتسام لـ"سيلفي". يعرف الأميركيون ذلك. إنه ذاك الجار العابس الذي لا يقول لك صباح الخير، لأنه مشغول بالتحضير للثورة السياسية، وبطحن الواحد في المئة من الجشعين. لا يجيد الوقوف بقربك من أجل صورة "سيلفي"، لكنه كأي جد حنون، يقطع بعفوية خطاباً نارياً ويهرع صوبك ويداه تسبقانه، ويكون الأول في نجدتك إذا تعثرت ووقعت أرضاً. غيره من السياسيين لا يفعل ذلك، لأنه لم يتدرب مسبقاً على ردة فعل كهذه، ولا يعرف بالتالي كيف ستكون نتيجتها على استطلاعات الرأي، فيفضل تجاهلك وإكمال مشهده الانتخابي كما يفترض، حتى لو كنت مصاباً بذبحة صدرية.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها