العملية التي بدأت قبل أعوام، قد تقود مرحلياً إلى نوع مختلف من نظام سياسي غير مهيمن عليه من قبل قوة وحيدة. أنا لا أتصور عالماً ثنائي أو ثلاثي الأقطاب، لا اعتقد أن ذلك سيحدث. عالم صيني-أميركي، لن يحدث. بل سيكون بنية أكثر تعقيداً مع بقاء الولايات المتحدة القوة الأعظم، ولكن ليست القوة التي لا يمكن تحديها. والتحدي يعني العودة إلى وضع طبيعي تتنافس فيه القوى الرئيسية على النفوذ. لطالما كان الوضع كذلك، لطالما كانت القوى الرئيسية في أوروبا أو آسيا أو الشرق الأوسط تتنافس على النفوذ، والآن التنافس العظيم للقوى قد عاد. هذا الدافع الأهم للنظام العالمي. اعتقد أن هذا التحول سيأخذ وقتاً طويلاً.
كيف ترى العلاقة بين روسيا وأميركا بعد انتخاب دونالد ترامب؟
من الصعب الإجابة، ونحن نتعرف شيئاً بعد شيء على شكل الإدارة الجديدة وسياساتها، فلا يتعلق الأمر فقط بمرشحي ترامب للإدارة، بل أهم ما حدث مؤخراً، هو إجراء الرئيس المنتخب اتصالاً مع رئيس تايوان، وهذا ما اعتقد أنه أول خطوة سياسية كبيرة فعلها ترامب، حتى قبل استلامه مهامه. إنها رسالة مهمة للصين. بالنسبة لروسيا، وخلال حملته الانتخابية، لم يهاجم ترامب روسيا، وكان ذلك غريباً فعلاً لأن كل المرشحين اعتادوا فعل ذلك، فذلك غير مكلف لأن العلاقات الإقتصادية منخفضة للغاية، وقد تكون معدومة. ترامب لم يفعل ذلك، لا بل قال مجموعة من الأمور الحسنة عن بوتين، ولكن من المبكر التكهن، فلم نسمع كفاية منه. لا أحد يعرف فعلياً، فلقد عُدت لتوي من واشنطن، والجميع هناك، وفي نيويورك أيضاً، "لا-أدريون"، من الجمهوريين والديموقراطيين، حول المستقبل. أعتقد أن بوتين حذر جداً في هذه المرحلة، ولم يطلق تصريحات مؤخراً، فهو حذر في طريقة مقاربة ترامب، وإشارته الأولية كانت أنه جاهز لمحادثات جدّية، ولكنه لم يتحدث عن توقعاته. فقد قال بوتين شيئاً عن وجود طرق أفضل للتواصل بين أميركا وروسيا، و"نحن ندعمها"، ولكنه لم يقل إن ترامب هو الشخص الذي سينقل العلاقة إلى مستوى الصداقة مع الولايات المتحدة. وأنا متأكد أنه في الخفاء يتم التحضير لأول لقاء بين بوتين وترامب.
قيادة جماعية في الصين مع بروز دور شخصي كبير للرئيس شي جينبنغ الذي أصبح "القائد النواة"، وحكم شخصي في روسيا مع بوتين، والآن ترامب وفائض شخصيته الذي يبدو أنه قد هيمن على تقاليد المؤسسة الديموقراطية في أميركا. إلى أين تتجه المنظومة السياسية مع فائض الحضور الشخصي لهذه القيادات؟
أكثر من أي مرة سابقة، لدينا هذا النوع من السلطة في هذه الدول، وهي مختلفة عن بعضها. أنا لا أقترح أن هذا عالم ثنائي أو ثلاثي الأقطاب، ولا أن روسيا بأي شكل هي مساوية للولايات المتحدة والصين عسكرياً وسياسياً، وخصوصاً اقتصادياً. روسيا تلعب دوراً مهماً جداً، ولكنه دور قد بُني على عوامل متنوعة، قد تجعلك تفكر بأنها تلاكم في خانة وزن أكبر من وزنها، واعتقد أن هذا صحيح، وهي تقوم بذلك بنجاح أقل مؤخراً. ما يحيلنا إلى الجواب على السؤال، بأن لدينا ثلاثة "شخوص" قيادية، أناس برؤى قوية جداً، قد نختلف أو نتفق معهم. لدينا بوتين في روسيا، وشي جينبنغ في الصين والذي قام بتغيير النظام السياسي للبلاد وهو الآن في خانة مختلفة تماماً عما كانه قبل أعوام قليلة، ولدينا ترامب الذي بمفرده تعامل مع الانتخابات الأميركية، وهو الآن يتحدى بعض محددات صناع السياسة الأميركيين.
بوتين صعد إلى الحكم على خلفية "الثورة الروسية" التي نقلت بلداً شيوعياً إلى روسيا اليوم، وكان قد أستدعي من قبل الرئيس الأسبق بوريس يلتسن، ليكون خليفته. دونالد ترامب لم يكن أبداً سياسياً، لقد صنع من نفسه رئيساً للولايات المتحدة، محتقراً النخبة. صحيح أن هذين الرجلين جاءا إلى السلطة بطرق غير تقليدية. في حالة بوتين، فقد تمكن بسبب شخصيته من قيادة التحول من الفوضى التي أعقبت انهيار الشيوعية إلى روسيا التي نراها اليوم. المزايا الشخصية في كلا الحالتين مهمة للغاية. وإلى حدّ كبير، سيعتمد المستقبل بين البلدين على الكيمياء بين هذين الشخصين. لكن الأمر معقد أحياناً، فبوتين وجورج دبليو بوش، كانا صديقين، ولطالما أجريا الكثير من اللقاءات، ومع ذلك استمرت العلاقات بين البلدين بالتدهور.
من الجيد وجود علاقات شخصية بين الرئيسين، ولكن هذا غير كافٍ لتطابق سياسات البلدين. فروسيا قطعة واحدة، أسميها بـ"ملكية الأمر الواقع" المُقادة من قبل "قيصر" منصبه رئيس، ولكنه ملك فعلياً. الولايات المتحدة أمر أكثر تعقيداً، لديها سلطات منفصلة، ووسائل الإعلام تناصب ترامب العداء، ولا أحد يعلم كيف ستؤول الأمور إذا ما واصل ترامب عداءه مع النخبة، وإذا ما كانت سياساته الخارجية ومنها مع روسيا، سيتم اتباعها من بقية المؤسسات الأميركية. في روسيا الأمر مختلف، إذا قرر بوتين الذهاب في هذا الإتجاه أو ذاك، فبمقدوره أخذ البلد بأكمله معه.
إذا كانت الرأسمالية في حالة الولايات المتحدة وأوروبا، قد نجحت بشكل أو بآخر، في تحديث العالم، ونشر القيم الليبرالية والمؤسسات الديموقراطية في بعض البلدان، فماذا لدى الروس يستحق المشاركة من منظور عالمي؟
الروس لا ينشرون مفاهيم الديموقراطية والليبرالية. القيادة الروسية تؤمن بأن العالم يتألف من كيانات حضارية كبيرة متعددة، كتل حضارية، فهنالك العالم الغربي المؤلف من أميركا وأوروبا، ويملك مجموعته من القيم ونظامه السياسي وتقاليده، وهناك أنظمة أخرى لديها مواقفها المكافئة وأهمها الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية. كما أن الشرق الأوسط يُمثّلُ منطقة راسخة. وروسيا بدورها واحدة من هذه الكيانات.
بالنسبة للروس، الغرب ليس مصدر القيم العالمية، هو بالتأكيد حضارة ساهمت في اغناء الجنس البشري، ولكنه لم يعد الحضارة المهيمنة. لقد كان الغرب مهيمناً في القرون السابقة، ولكنه الآن يتراجع، في حين أن حضارات أخرى تصعد، وبشكل رئيس في آسيا. وروسيا، بالنسبة لقيادتها، لم تعد ملحقة بأوروبا، إنها حضارة راسخة، تتشارك بعض القيم مع الأوروبيين، ولكنها لا تستورد قيماً من الخارج.
ومن وجهة نظر القيادة الروسية، هناك ديموقراطية في روسيا –لا أعتقد شخصياً وجودها- وهناك دعم شعبي أصيل يرتكز عليه النظام السلطوي، ما يجعل من روسيا كياناً سياسياً على قدم المساواة مع أي كيان آخر في العالم. ولا يقلل عدم وجود نظام حزبين متنافسين في روسيا كما هو الحال في أميركا، ولا أن القيادة في روسيا لا تأتي إلى السلطة عبر ذات الآليات المتبعة في الولايات المتحدة، من أهمية روسيا كدولة أو كيان سياسي.
روسيا تنظر إلى المجتمعات حول العالم على أنها تعيش مستويات مختلفة من التطور، وما هو فريد لمجتمع ما، قد يكون ساماً لمجتمع آخر. لحكم روسيا بطريقة فعالة، مثلاً، على الحاكم الحصول على دعم ثلثي الرأي العام. في روسيا إذا حصلت على 50.59 في المئة من الأصوات، وهو أمر حسن في الغرب، فذلك هو دعوة لحرب أهلية. هكذا يعمل المجتمع.
روسيا كانت قد أعطيت فرصة لاستخدام النموذج الغربي من الديموقراطية (عقب انهيار الاتحاد السوفياتي)، ولكن ما حدث هو انتشار للفوضى مبدئياً، وفي غضون سنوات انقلبت الفوضى إلى حكم أوليغارشي. مع عدم وجود المؤسسات في روسيا، وهي الموجودة في الغرب منذ قرون، كالملكية الخاصة وحكم القانون، لا يمكن ايجاد ديموقراطية فاعلة مناسبة. لا يمكن ايجاد ديموقراطية من دون ترسيخ حكم القانون.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها